للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها. ذلك أننا إذا نظرنا إلى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دون ما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظزة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعده سيراً مطرداً، تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها. فإن النظرة الأولى تؤدي إلى تسجيل ما يطرؤ من حوادث في أنفسنا وفي مذكراتنا، على أنه من حكم القضاء والقدر، أي من حكم لا يد للإنسان فيه، ولا يسعه أمامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف، أو كما يعبر عنه بعضهم الاستسلام للواقع. فهذه النظرة تجعلنا نطأطئ الرؤوس أمام الأحداث، لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدي بنا إلى أن نحني لثقلها ظهورنا، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا.

أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا. فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالقياس الصحيح، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها نسيطر عليها بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي، لأننا حينئذٍ نعلم أن الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أعني من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية، كما رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١١٠/ ٣].

والمعروف في أعم صوره والمنكر في أشمل معانيه، يكونان جوهر الأحداث التي تواجهنا يومياً كما يكونان لب التاريخ.

<<  <   >  >>