للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلو أننا جعلنا هذه القضية تحت نظرنا لنصدر فيها حكمنا، فهل يجوز أن يكون مخالفا للذي طبقناه على الصورة الأولى والصورة الثانية؟ لا فإن مقتضيات الصورة الثالثة تتطلب الحكم نفسه، بمعنى أن القضية تمثل في الصورة الأولى حالة طبيعية أوردناها للقياس، لنكون منها مقياساً نطبقه في الصورة الثانية، التي تمثل حالة مرضية ليس المريض فيها الصبي الذي يتصرف في المعتوه كما كان يتصرف في الجمل، إنما المريض هو المعتوه، وحالته تتطلب أن نعالجه علاجاً يعيد له إرادته ورشده. أما لو أننا بقينا نوجه للصبي اللوم والاستنكار على سلوكه مع المجنون مثلاً، فإنني أشك في أن استنكارنا هذا وإلحاحنا، يعيد للمريض رشده وإرادته، ولو قضينا نصف قرن أو أكثر في هذا الطريق.

فإذا كان حكمنا في الصورة الأولى، أعني في مستوى الاعتبار صحيحاً وكان صحيحاً في الصورة الثانية- أي في مستوى حالة نفسية مرضية- فإن الحكم بالصحة ينسحب على الصورة الثالثة، التي هي في مستوى حالة سياسية مرضية، حيث التشابه بينها وبين الحالتين الأوليين واضح ظاهر.

ولكننا في تاريخنا القريب، أي منذ نصف قرن لم نتبع هذا التحليل المنطقي في معالجة مشكلة الإستعمار- وإنما نحن قد صرفنا وقتنا في التعبير بكل وسيلة وبكل صيغة عن استيائنا من سلوك الإستعمار، كأننا نطالب إبليس أن يعدل من تصرفاته، ويصبح ملكا كريماً. أما المريض الحقيقي أعني الإنسان المستعمَر، الإنسان الذي أصابه داء القابلية للاستعمار، فقد تركناه يستفحل فيه المرض من غير أن نحاول محاولة جدية في فهم حالته المرضية حتى نعالجه منها. وما ذلك إلا لأننا- خلال صراعنا مع الإستعمار- لم نعبر عن الأشياء بلغة الفعالية، ولكن بلغة العاطفة التي أدت بنا أحياناً إلى تصرفات ومواقف هزلية، تتفق تماماً مع الخطط الإستعمارية في بلادنا. وهذا ناتج عن أننا لا نقدر حوادث التاريخ كما ينبغي لنا تقديرها، أعني أن نقدرها بصفتها أفعالاً وردود أفعال بين

<<  <   >  >>