إن التجربة العربية تأخذ أيضا معناها من الوسائل الفنية الضخمة، التي أصبحت اليوم تحت تصرف الإنسانية، تفتح أمامها عهداً جديدا، وتعلق في وقت واحد على مصيرها كل التوقعات.
إن العهد الحديث الذي مدّ شبكة الخطوط الحديدية في العالم وأضاء مدنه بنور الكهرباء، إن هذا العهد الحديث الذي بهر جيلنا منذ خمسين سنة أصبح قديماً، وبدأ يولي مدبراً إلى ظلمات التاريخ، وبدأت تذهب معالمه شيئاً فشيئاً، وتصبح آثاراً ومخلفات من بينها خطوط حديدية معطلة في أوربا، وبعض الخطوط الهاتفية التي أصبحت دون جدوى في قعر البحار.
إن التطور العلمي خلف هذا كله وراءه، وكأن التاريخ يطوي الصفحة الأخيرة من الفصل الذي كتبه الجيل في عهد البخار، وأصبحنا على أبواب عهد جديد لا نعرف اسمه بعد، وإنما بدأنا نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا، في عالم جديد تبصر فيه عيوننا إلى بعد المئات من الكيلو مترات، وتسمع فيه آذاننا إلى بعد الآلاف من الكيلو مترات، ويمتد حضورنا إلى أي مكان من العالم بسرعة الضوء، وننتقل فيه بسرعة الطائرة النفاثة اليوم وبسرعة الصاروخ الموجه غداً.
إننا نعيش اليوم في عالم صاغه العامل الفني صياغة ذات أثر عميق في أنفسنا، لأن العوامل الجغرافية التي كان لها الجانب الأكبر في التأثير على سير التاريخ تفقد اليوم شيئاً فشيئاً مفعولها. إن العالم الذي نعيش فيه أصبح صغير الحجم، وبقدر ما يقل فيه تأثير الأبعاد الجغرافية، تزيد فيه سرعة التطور بفعل عوامل التسريع التي ذكرناها من TV و SF وأجهزة النقل. فالعالم اليوم يختصر الطريق ويختزل التاريخ، ويعيش تحت قانون اجتماعي وتاريخي جديد، هو قانون السرعة في جميع وجوه النشاط، لا يظهر أثره في عالم الأشياء والاعتبارات العسكرية فقط، بل يظهر أثره في عالم النفوس، التي بدأت تشعر به شعوراً واضحاً، كما يتبين ذلك من خلال دراسات حديثة مطبوعة بطابع خاص، يمكن