والفكرة التي تربطها في العملية الاجماعية .. وعندما لا يكون في هذه العملية سوى الأشياء وحدها، فالنتيجة تصبح في حكم الصدف لا في حكم التقدير. وهذا ما وقع في نهضتنا العربية خلال النصف الأول من هذا القرن، فكنا كأننا نحاول بناء حضارة بمنتوجاتها. ومثل هذه العملية تتناقض بكل وضوح مع القاعدة المنطقية البسيطة، التي صغناها لتوضيح هذا الجانب مع التحفظ بنسبية الأشياء وطبيعتها، على أن القاعدة المنطقية في الرياضيات مثلاً تفصل بين الخطأ والصواب بمقدار الشعرة، أي المقدار الذي يسميه أهل الفن (الابسلون) .. أما القاعدة المنطقية في الاجتماع فإنها تفصل بين الخطأ بمقدار الشبر. وهذا الشبر يفصل في الحقيقة موضوع حديثنا بين خطئين: أي بين الإفراط والتفريط؛ وللنوعين من الخطأ كليهما معنى اجتماعي يفيد توضيحه هنا. فأما التفريط فهو ترك العملية الاجتماعية لقانون المصادفة مطلقاً، أي ترك العنان للأشياء تفعل ما تريد بتصرفها الاعمى. وهذا التصرف يقلب أولاً الوضع المنطقي الطبيعي معبراً عن عملية، تقوم على مبدأ تكوين المنتج من منتوجات، أي في مصطلح موضوعنا تكوين الحضارة ابتداء من المنتوجات الحضارية، فإن العملية صريحة المخالفة للمنطق البسيط من الجهة النظرية، ولكنها تخالف أيضاً ما يسمى المنطق العملي لأنها قائمة على استحالة مزدوجة: تنتج الاستحالة الأولى من عجزنا عجزا مسبقاً عن وضع قائمة للأشياء أو المنتجات الحضارية التي نحتاج لاستيرادها، لأن إحصاء عددها يفوق ما نتصور من الصعوبة، بمجرد عملية إحصائية، فضلاً عن أن عملية كهذه لا تنتهي لأن عدد الأشياء الحضارية يتزايد كل يوم، فالمحاولة إذن ضرب من العبث في هذا الوجه أولاً، ثم هي مستحيلة من وجه آخر.
فلو قدرنا أننا انتهينا بنجاح من عملية الإحصاء- وإنني أكرر عبث مثل
هذا الفرض- فسوف نجد أنفسنا أمام استحالة أخرى، تتصل بتمويل المشروع، لأن الميزانية التي يقتضيها تنفيذه تفوق إمكانيات أي مجتمع ناشئ، وتصعب حتى