على مجتمع متقدم مزوّد بالخبرة، كما نرى ذلك خلال (تجربة ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية، التي حطم جهاز إنتاجها تحطيهاً كاملاً شاملا، من مصنع الإبرة إلى مصنع الصاروخ الذي كان يشرف عليه (برون) على شواطن بحر البلطيق.
واليوم- أي بعد عشر سنوات فقط- استرجعت ألمانيا عالم أشيائها بالجملة، بل زادت فيه آخر المنتوجات الصناعية، ولكن لم يفكر من أشرف في ألمانيا على عملية البعث الجديد في استيراد هذه الأشياء، لأن العملية مستحيلة من وجهة تصورها الفكري، ومن جهة تمويلها، ولو عززنا مشروع مارشال بالمليارات من الدولار.
ولكن أثر خطأ التفريط لا ينتهي عند هذه الاستحالة الفكرية والمادية، بل يتعدى إلى الجانب النفسي، لأن الشيء يفرض على الإنسان سيطرة خفية، تتجلى في حاجتنا إليه أو في إعجابنا به، وقلما تتجاوز سلطة الشيء حدود الإعجاب الفني عند من صنعه، لأن روح الصانع تشعر دوماً بعزتها أمام المصنوع، أما عند من يستورد الشيء فإن الوضع ينعكس: فإما أن يفقد الشيء تماماً فعاليته الاجتماعية لأننا لا نقدر قيمته، مثل جهاز ألكتروني دقيق يقع مصادفة في أيدي قوم بدائيين في أواسط إفريقيا، وإما أن يجد الشيء عندنا كل تقدير، ولكن يتجاوز تقديرنا له حدود الإعجاب الفني إلى إعجاب صوفي، فتطغى علينا سيطرة الشيء سيطرة يقترب معها من التقديس اللاشعوري، لأن الصلة النفسية بيننا وبينه ليست صلة الصانع بالمصنوع. وهكذا تتكون في المجتمع نزعة يمكن أن تؤدي في نهاية الأمر إلى ظهور حضارة شيئية، أي حضارة يطغى فيها الشيء على الإنسان. وربما تنتهي هذه النزعة تدريجياً إلى نزعة مادية بحتة. فهذا هو الجانب الخفي من حيث التفريط في عملية إنشاء حضارة ابتداء من منتوجاتها وأشيائها.
ولكن هنا، إلى الجانب الآخر جانب الإفراط كما ذكرنا. وهذا الخطأ