للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بمطلوباته أباً. وحتى أعطيكم صورة عن مدى إخلاصه وقوة خلقه، فإني أذكر أنني زرته يوماً في مستشفى كان يعالج مرضاً ألم به، فوجدته متألماً ويبدو عليه التجهم، فلما سألته عما به قال لي: واحسرتاه إنني لم أعد أصلح للجهاد.

وذات يوم كنت جالساً مع أخي الجزائري على سطح مقهى في مرسيليا، يحدثني عن نوائب الزمان التي ألمت به، والضيق المادي الذي هو محدق برزقه، فلما انتهى من حديثه ودعني وانصرف لبعض أعماله، وبقيت وحدي على سطح المقهى أفكر في أمر أخي، وبينما أنا كذلك إذا بامرأة عجوز شمطاء دخلت المقهى، وعلى وجهها أمارات حياة قذرة، قد يخيل من ملامح وجهها أن رائحة الخمر تنبعث من فمها، فوقفت وسط المقهى وغنت بأقبح الصوت وهي ترقص على رجل واحدة، فما إن انتهت من الذي هي فيه حتى مدت يدها إلى الجالسين، فجمعت من طيبة الفرنسيين ما يكفي أخي الذي كان معي وأهله أسبوعاً.

وهكذا دار في ذهني هذا السؤال: لماذا هذا الرجل الفاضل المخلص يحرم من سعة العيش، وهذه المرأة المحرومة من كل ميزة خلقية يأتيها رزقها رغداً؟ ففهمت حينئذٍ أن حياة الفرد قبل أن تكون منوطة بذاته الخاصة وبموهبته الشخصية، هي منوطة أولاً وقبل كل شيء بصلته بمجتمع معين، فإذا كان المجتمع يقدم الضمانات للفرد، فإن كل فرد ولو كانت هذه المرأة الشمطاء لا يُحرم من الحياة، ولقد رأينا فعلاً نماذج كثيرة من هذا النوع في أوربا، تتمتع بالحياة ولا تحرم منها، بينما الرجل الفاضل الجزائري يُحرم من وسائل الحياة ولا يقدر على شيء منها.

إن القضية قضية مجتمع وليست قضية فرد، وحتى يكون كلامنا أكثر وضوحاً، فإنني أرى أن المتاعب التي تهاجم الفرد والمصاعب التي تعترضه في الطريق، ليس مصدرها تكوينه الخاص ولكن صلته بمجتمع معين، فالمجتمع

<<  <   >  >>