للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سِنّ البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم", ومثل ذلك قال الرازي (انظر المحصل ص ٤٧) , وكذلك الايجي في المواقف (ص ٣٢) وغيرهم، وهذا كلامٌ مخالف لكتاب الله تعالى ولما عُلِمَ من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما أجمع عليه أئمة المسلمين، وإذا سُلِّم لهؤلاء، "أنّ أول الواجبات هو النظر، أو المعرفة أو حتى الشهادتين كما هو الصحيح قال ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد". (الأوسط: ص ٧٣٥) فكيف يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ وقد فعله قبل ذلك، وخصوصاً إذا كان النظر مستلزماً للشك المنافي لما حصل له من المعرِفة والإيمان، فيكون التقدير أن يقال: "أُكْفُرْ ثم آمن، واجْهَلْ ثم اعْرِفْ ", وهذا كما أنه محرَّم شرعاً، فهو ممتنع في العقل، فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف مالا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً.

كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته.

والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ.

والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا يصير بها الإنسان مؤمناً وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعَالى. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) . فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه، وبها يحصل محبوبه تعالى، وتحصل سعادتهم ونجاتهم، وهذا لا يخالف كون كثير منهم لم يعبده؛ لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى، هي أحب إليه من عبادة أولئك, وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: ١١٩) . فهو تعالى أراد بخلقهم ما هم صائرون إليه من الرحمة, والاختلاف إرادة كونية قدرية، ففي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . ذكر الغاية

<<  <  ج: ص:  >  >>