للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وعاصف ريحها وظلام ليلها، وما صادف من وحشها. وفجائعها. ثم يتخلص من ذلك في لفط وتسلسل مقبول إلى غرض قصيدته مدحًا كان أو وصفًا، أو للفخر أو حكاية حال، وهذا يتفق تمامًا مع حركة وجدان الشاعر العربي وفطرته. التي جبل عليها والتي تجيش بالغلبان طفرة ثم يعبّر مصورًا في تلك الآونة يعتلج في فؤاده، ويضطرم بنفسه. وعلى ذلك المنهج ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول ١:

"أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا. وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الطاعنين عنها، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد، ولم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب. ويصرف إليه الوجوه. وليستدعي به أصفاء الأسماع إليه؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لاثط بالقلوب، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستمتاع له عقب بإيجاب الحقوق. فرحل في شعره. وشكا النصب والسهر وسرى الليل. وحرَّ الهجير وأنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل. وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المديح: فبعثه على المكافأة وهزّه للسماح. وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل".

وتقدَّم الزمن وجاء العصر العباسي، وأينعت فيه الحضارة الإسلامية بما أخرجت العقول. وما عصرته القرائح بعد ذلك التبادل الثقافي وحركات الترجمة. وتشجيع الخلفاء العباسيين وعكوف الكتاب. يقطفون من ثمار هذا العصر.

وإذا بحركة الوجدان تتغيَّر ويتبدل شكلها، وإذا بأبي نواس يطالعنا ناعيًا هذه المطالع مهجنًا ذلك الطريق البالي العتيق. ألا وهو الوقوف على الديار والبكار على الأطلال، ووصف الآثار الباقية، والتسليم عليها، وسؤالها عن الأحبة النازحين عنها، فليرفع عقيرته منددًا بمطالع القصائد الجاهلية، مستبدلًا بها ذكر الخمر ووصف الصهباء. والتغنّي بنعوتها، ومن الطرب والنشوة ما تصنعه الخمر بالعقل الكثير فيقول:

<<  <   >  >>