للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بين الالتزام وهدمه

لكي يكون الشاعر شاعرًا يجب أن يكون قبل كل شيء ذا موهبة فطرية. ثم يكون ذا ذكاء يميزه وحسن تقدير وذوق مرهف يدرك ما في الأوزان من قبح وجمال، وأن يكون عنده ثقافة أدبية واسعة تعتمد على الدربة والدراية، وطول الممارسة والمران للنصوص الأدبية ودواوين الشعراء في كل عصر.

عمود الشعر يتطلب منه معنى صحيحًا وشريفًا ويلبس لفظًا مصيبًا ومختارًا جزلًا منتقى ومشاكلًا للمعنى الذي في النفس، ومطابقًا للأسلوب متفردًا متميزًا. متلائمًا مع نسج التركيب، وموسيقى الوزن ومطابقة الخيال، وقرابة التشبيه. وموافقة الغرض والمقصد، فيكون الشاعر مطبوعًا في كل ذلك. وليس متكلفًا ولا متصنعًا في شيء من ذلك.

فإذا أقام عمود الشعر كان شاعرًا مبرزًا، وإلا فبقدر ما تتضح به قريحته وينزع به دلوه من الشعر.

أما هؤلاء الذين يغوصون على المعاني وبهم نهم إلى سبرها لتخرج على أي معرض التقطت به، ولا يعينهم الأسلوب أو النسج بقدر عنايتهم للمعنى وتهالكهم عليه. فذلك النائون عن عمود الشعر ولهذا اتهم النقاد أبا تمام بالخروج عن عمود الشعر لكلفه بالمحسنات اللفظية. جُلّ هؤلاء يبعتون بأمر الجناس والمطابقة وفنون البديع أكثر من وضوح المعنى وسهولة اللفظ وسلامة الأسلوب. وهم لا يبالون أن يغمض المعنى ويعمى إذا سلم لهم فنم ن فنون المحسنات البديعية.

أولئك البعيدون عن نهج القدماء وعمود الشعر. ومن أجل ذلك أولعوا بالمطابقة والجناس، بينما وصفوا تلميذه البحتري بأنه ملتزم لعمود الشعر لسهولة شعره. وانتقاء لفظه ووضوح معناه وإحكام نسجه، وتوسمه خطى سلفه.

التزام أبي تمام والبحتري:

قد يكون من الإنصاف أن نقدّم نصين للشاعرين أبي تمام والبحتري تحت باب المواجهة بينهما. وكأنهما في ميدان الشعر فرسا رهان.... ننظر أيهما أطول بابًا. وأعلى كعبًا. ونلمس فيها مدى قدرة كل منهما.

<<  <   >  >>