وأما المسائل الاجتهادية التي اختلفت فيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم واختلفت فيها الفقهاء بعدهم بحسب اختلافهم فهذه لا يقال فيها إن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كما عبر به أبو تراب لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كلهم في المسائل الاجتهادية. وهذا خطأ فإن الفقهاء لم يخالفوا جميع أقوال الصحابة في المسائل الاجتهادية وإنما كانوا يأخذون بأقوال الصحابة أو ببعضها ويختلفون بحسب اختلاف الصحابة وإذا ظهر لهم الدليل من الكتاب أو السنة أخذوا به وتركوا ما سواه من الأقوال. هذا هو المعروف عن المحققين من العلماء وليس في فعلهم نقص على الصحابة ولا غض من قدرهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني - وهذا لفظه -: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين. أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما ورشادا. وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا. وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا. ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا. وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم. وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". انتهى.
وقد نقله عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) قال: "وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهذه البدعة الضلالة". قال ابن القيم:"والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة".