للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد انتفع داود بالدرس التدريبي العظيم هذا، فاستحق لما علم منه ربه ذلك بأن يجعله الخليفة العادل في الأرض، والقاضي المتحق الذي لا سبيل معه لميل الهوى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .

وانظر إلى نهاية الآية المنذرة بالعذاب الشديد، لمن يميل مع الهوى ويضل بتضيع الحقوق، عندما يحكم أمة أو يفصل في قضية، فويل له من ناس ليوم الحساب، عندما يكون يومها حسابا عسيرا كأعسر ما يكون الحساب، ذلك أنه أؤتمن على شيء هو من أعظم الحرمات عند الله، وما كانت كذلك - وهو أعلم - إلا لأنها خير ما يتم به الهدوء النفسي والأمان الإنساني، فإن لم يحاسب الحاكم أو القاضي نفسه ليوزع الحساب بين من لجأوا إليه أو ألوا إليه بدقة، اعتبرته الآية ضالا غاويا له العقاب الخاص بالضالين.

وبعد انتهائي من عرض العجائب الحقوقية لهذه الآية، وإنذارها من يحيد عن هذه الحقوق بلفتة بصر أن ينال جزاءه، بالشدة التي ذكرتها كلماتها الرهيبة، أكان يجوز للإنسان أن يجد لنفسه أقوى وأحكم مما جعله الله، حقا إن الإنسان لربه لكنود.

لكن الآسى الذي يملأ القلب نكدا، يأتي من الإنسان الذي ادعى الإيمان، وراح يثق بحقوق صنعت للغرض والغاية، وترك قرآنه وقانونه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ولكن بعد أن مات صلى الله عليه وسلم، ما فتنا فقط عن البعض وإنما عن الكل، فحاق بنا ما ذكرت نفس الآية {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ، (وقد كان) وعسى ألا يقع بالبعض الباقي.

وننهي هذا الباب بنصوص من فخرنا العدلي واعتزازنا القضائي، بما نباهي به الدنيا قاطبة، نقدمها عددا ونصا بغير تعليق لمن يدخرها.

١- آية من آيات زخر بها كتاب الله العظيم:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم؟} سورة النحل، آية ٧٦.

٢- حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أم سلمة رضي الله عنها، أن دعا وصيفة لها مرات فلم ترد عليه، فاستبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها: "أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك! " فأقبلت الصبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: "والذي بعثك بالحق ما سمعتك"، وكان بيد الرسول سواك فقال لها: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه الإمام أحمد.

٣- أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تذكر زوجها عنده فقالت: "زوجي من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي"، فقال لها عمر: "جزاك الله خيرا، فقد أحسنت الثناء"، فلما ذهبت قال كعب بن مسور رضي الله عنه، وكان جالسا بجانب عمر: "يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى"، فقال عمر: "ومن اشتكت؟ "، فقال كعب: "اشتكت زوجها"، قال عمر: "علي بها"، فعادت ومعها زوجها، فقال عمر لكعب: "أقض بينهما"، فقال كعب: "أقضي وأنت حاضر"، قال له عمر: "إنك فطنت إلى ما لم أفطن إليه"، فقال: "كعب وهو يقضي بينها: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، فعلى زوجها

<<  <  ج: ص:  >  >>