للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
مسار الصفحة الحالية:

وليمده بما يقتات به إذا افتقر، والله تعالى - وله المثل الأعلى - لا يتصور عاقل أن يتخذ له ولدا، لأن اتخاذ الولد دليل على حاجة متخذه إليه، والمحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله العلي الكبير أن يحتاج لغيره، فهو (الغني) عن خلقه جميعا، وآية ذلك أنه خالق السموات والأرض وما فيها وما بينهما، ومالك الخلق جميعا ومدبر أمره وحده سبحانه وتعالى.

وتجريد الربوبية لله تعالى على هذه الصورة لينبني عليه توحيد الألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات أكمل تجريد لتوحيد الله عز وجل؛ ومن ثم نرى أن أسماء الله تعالى تذكر غالبا بإقرار قضية توحيد الله تبارك وتعالى لعظيم أهميته في صحة الأعمال.

وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة أن الله تعالى ينكر على من ادعى أن له ولدا، {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أي تنزه عن أن يكون له ولد، بل هو الغني عن كل ما سواه، إذ كيفي كون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك وعبد له؟ ١.

وذكر الإمام الشوكاني في بيان الآية نفسها: أن هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدا، فرد ذلك عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} ؛ فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غني عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة، والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى لولد، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك، ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيها ولدا؛ للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة٢.

١- وفي قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد آية ٣٨) .

أقول: وقد سُبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية الكريمة ببيان نوع من أنواع العبادة وهو الإنفاق، وأنه لا يكون مقبولا إلا إذا جرد لله تعالى وحده، وأن الذي لا يكون موحدا بالله ومؤمنا بأسمائه الحسنى وصفات كماله العليا - ومنها أنه الغني وغناه مطلق لأنها نهاية له - فيبخل بالإنفاق خالصا لوجهه تعالى، فإنما يقع ضرر ذلك عليه وحده، ولا يضر الله شيئا، لأنه سبحانه هو الغني وخلقه هو الفقراء إليه، وإن استمروا على عدم توحيدهم مدبرين


١ تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص ٣٠٩.
٢ فتح القدير لجزء الثاني ص ٤٦٠.