بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، ولا رهبة بأن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجها بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. أو نقول: إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله فَاعْبُدْنِي فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أو نقول: معدن النور هو القلب، والاشتغال بما سوى الله- من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار- هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
التاسعة: لنضرب مثلا لذلك فنقول: البدن بالكلية كالمملكة، والصدر كالقلعة، والفؤاد كالصفة، والقلب كالسرير، والروح كالملك، والعقل كالوزير، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة، والغضب كالا سفهيد الذي يشتغل بالضرب، والتأديب والحواس كالجواسيس، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما
قال «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»
فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا
قال صلى الله عليه وسلم «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه»«١»
وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه
(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٧٨. أبو داود في كتاب الجهاد باب: ١. أحمد في مسنده (٦/ ٥٨، ١١٢) .