للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو علي: الرّجال في هذا المقام على أربعة أقسام:

القسم الأول: رجل قد استولى على قلبه عظمة الله وكحبته، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تله الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} النور ٣٧.

والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الاجابة، وتحقق العبودية، وإخلاص الورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الأحزاب ٢٣.

والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على سائر ضمائر الأسرار، ثم على ظواهر النفوس الأغيار، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يس ٢٠.

والرابع: رجل يتكلم سره عن نفسه وعن الملكين الموكلين، ولا يطّلع على سرّه إلا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، إلى قوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر ٢٣، فهذا هو في ظاهره كالسّليّ الخليّ، وفي باطنه كالمتوليّ الشجيّ.

وأنشدوا:

إليك وإلا لا يفيد سرى الساري ... ولا حرف إلا ما تلاه لك القاري

فيا منيتي يا بغيتي بل ورحمتي ... ويا جنتي في كل حال ويا ناري

إذا صحّ منك الاعتقاد فكل ما ... على الأرض فان من شموس وأقمار

قال المغيرة بن حبيب: كنت أسمع بمجاهدة المحبين، ومناجاة العارفين، وكنت أشتهي أن أطّلع على شيء من ذلك، فقصدت مالك بن دينار، فرمقته على غفلة وراقبته من حيث لا يعلم ليالي عدة، فكان يتوضأ بعد العشاء الآخرة، ثم يقوم إلى الصلاة، فتارة يفني ليلة في تكرار آية أو آيتين، وتارة يدرج القرآن درجا،

<<  <   >  >>