للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ لَا يُفَارِقهُ أَيْنَمَا سَارَ وَحَيْثُمَا اِنْتَقَلَ حَتَّى رَآهُ يتقبض شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَتَرَاجَع قَلِيلًا قَلِيلًا ثُمَّ عَلَا إِلَى ثقبة اَلَّذِي اِنْحَدَرَ مِنْهُ ثُمَّ طَارَ إِلَى سَمَائِهِ اَلَّتِي هَبَطَ مِنْهَا فَحَزِنَ لِفِرَاقِهِ حُزْن العشير لِفِرَاق عشيره وَدَار بِعَيْنَيْهِ حَوْل نَفْسه فَإِذَا قَطَعَ سَوْدَاء مُظْلِمَة تتدجى وَتَتَكَاثَف مِنْ حَوْله ويملس بَعْضهَا فِي أَحْشَاء بَعْض وَإِذَا هُوَ نَفْسه قِطْعَة مِنْ تِلْكَ اَلْقِطَع هَائِمَة بَيْنهَا هَيْمَان اَلرُّوح اَلْحَائِر فِي ظُلُمَات اَلْقُبُور فَمَا كَادَ يَعْرِف مَكَانه مِنْهَا فَمَشَى فِي ذَلِكَ اَلْمُعْتَرَك اَلْمَائِج يُفَتِّش عَنْ نَفْسه وَيَتَلَمَّسهَا بِيَدِهِ تَلْمِسَا حَتَّى سَمِعَ صَلْصَلَة اَلسِّلْسِلَة اَلْمُلْتَفَّة عَلَى قَدَمَيْهِ فَوَجَدَهَا وَكَانَ قَدْ أَجْهَدَهُ اَلْمُسَيَّر فَتَسَاقَطَ عَلَى نَفْسه بَاكِيًا مُنْتَحِبًا.

وَكَذَلِكَ اِنْقَطَعَ هَذَا اَلْمِسْكِين عَنْ عَالَم كُلّه خَيْره وَشَرّه وَلَمْ يَبْقَ بَيْنه وَبَيْنه مِنْ صِلَة إِلَّا ذَلِكَ اَلشُّعَاع اَلْأَبْيَض اَلَّذِي يَزُورهُ كُلّ صَبَاح وَذَلِكَ اَلسَّجَّان اَلْأَسْوَد اَلَّذِي يَطْرُقهُ كُلّ مَسَاء.

وَمَا مَرَّتْ بِهِ عَلَى حَاله تِلْكَ سَنَة وَاحِدَة حَتَّى نَسَّى نَفْسه وَنَسِيَ أَمَّهُ وَنَسِيَ اَلْعَالِم اَلَّذِي كَانَ يَعِيش فِيهِ وَالْعَالِم اَلَّذِي اِنْتَقَلَ إِلَيْهِ وَنَسِيَ اَللَّيْل وَالنَّهَار وَالظُّلْمَة وَالنُّور وَالسَّعَادَة وَالشَّقَاء وَأَصْبَحَ فِي مَنْزِلَة بَيْن مَنْزِلَتِي اَلْحَيَاة وَالْمَوْت فَلَا يُفْرِح وَلَا يَتَأَلَّم وَلَا يُذَكِّر اَلْمَاضِي وَلَا يَرْجُو اَلْمُسْتَقْبَل وَلَا يَعْلَم هَلْ هُوَ حَجَر بَيْن تِلْكَ اَلْأَحْجَار أَوْ قِطْعَة بَيْن قِطَع اَلظَّلَام أَوْ جَسَد يَتَحَرَّك أَوْ خَيَال يُسْرِيّ أَوْ وَهُمْ مِنْ اَلْأَوْهَام أَوْ عَدَم مِنْ اَلْإِعْدَام! مَرَّتْ عَلَى تِلْكَ اَلْأُمّ اَلْمِسْكِينَة بِضْعَة أَعْوَام لَا تَرَى وَلَدهَا وَلَا تَجِد مَنْ يَدُلّهَا عَلَيْهِ فَأَصْبَحَ مَنْ يَرَاهَا فِي طَرِيقهَا يَرَى عَجُوزًا حَدْبَاء

<<  <   >  >>