عكفت على القراءة مبتدئاً به، وخفق قلبي حين وقفت في أوله على نشأة (علي مبارك) فصدق ظني، فهو فلاح وابن فلاح مثلي، فلم أترك الكتاب حتى جئت على آخره، وأعدت قراءته مرات حتى كدت أحفظه عن ظهر قلب إذ ملئت إعجاباً بالرجل.
سميت المرحوم محمد شريف باشا حين كتبت عنه (رجل البرنامج)، وليس اليوم أحق بأن يسمى (رجل الواجب) من المرحوم علي مبارك باشا.
رأى صديقي المرحوم محمد رمضان بك القاضي السابق بالمحاكم الأهلية حين زار (فينا) عقب الحرب أحد ضحاياها (جول) يزحف وقد بقيت له ساق واحدة وذراع واحدة، وبيده الوحيدة مكنسة ينظف بها الرصيف، فسأله عن قصته.
قال جان: إنه كان يعمل في التحاليل الكيميائية، ويؤدي بذلك واجبه نحو بلاده وأسرته، وانخرط في سلك الجندية يؤدي واجبه نحو بلاده وأسرته، فلما فقد ساقه وجد مجال الواجب في عنابر الجيش يلف ويرتب بيديه، ولما فقد إحدى اليدين وكانت الحرب في نهايتها اشتغل كناساً، فهو بعد لا يستريح ضميره أن يكون من العاطلين، ومن بين إخوانه من هو أحق منه بالإعانة والإعاشة، وليس أحب إلى نفسه من أن يقوم بالواجب ويعيش من أداء الواجب، فليس فرق عنده بين المعمل والصفوف، ولا بين العنابر وكنس الرصيف!!!
حيَّاه صديقي عليه رحمة الله، وكتب عنه مقالاً كاملاً يذيع نبل نفسه ويضربه مثلاً لقومه.
وكذلك كان علي مبارك باشا، فهو من نوابغ البعوث العلمية في أول البعوث، وهو المبرز بين أفراد بعثته، وبلاده في حاجة إلى أمثاله، وفي حاجة أشد إلحاحاً إليه؛ ولكن لا زهو ولا صلف ولا استكانة! فالحاجة إليه يراها نعمة الله تستوجب الشكر، والعلم الذي يقدره الناس فيه يراه الثروة التي زكاتها البذل منها في خير البلاد.
ومن لم يجمّل فضله بتواضع ... يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر
كان علي مبارك باشا (ناظراً) وزيراً للأشغال يسيطر على أكبر الإدارات صلة بحياة البلاد ومرافقها، يضع الخرط وينظم حفر الترع والجسور التي طالما أحيت مواتاً ودرت أخلاف الرزق على الملايين وتركت اليباب مزارع وحقولاً، في أول عهد البلاد بزراعة منظمة وري منظم.