أرْع فيها الموسَى فأنك منها ... - يشهد الله - في أثام كبير
أيُّما كوَسج يراها فَيلقى ... رَبَّه بعدها صَحيحَ الضميرِ
هو أحرى بأن يشكًّ ويغرَى ... باتهام الحكيم في التقديرِ
فلماذا أخذ قول المتنبي دليلا على ميله للتعجيل دون قول أبن الرومي الذي منه استعار المتنبي ذلك المعنى؟
كذلك الأمر الثاني، لم يكن المتنبي بارعا فيه ولا بأول ولا آخر؛ فما زال الشعراء يشبهون ممدوحيهم بالأنبياء بل يجاوزون التشبيه إلى ما هو فوقه، وذلك معروف من مذهبهم قديماً وحديثاً، ولا نعني أنه لا بأس به شرعاً، ولكنا نريد أن نقول إن المتنبي لم ينفرد به ولم يطعن أحد بمثله على غيره من الشعراء في عقيدته؛ وقد وجد ذلك في صدر الإسلام ووسطه ويوجد الآن في هذا العصر، فمن قول جرير بمدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
ومن قول أبي نواس في الأمين:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
ومن قول أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك يذكر طائرات فرنسا:
لسليمان بساط (واحد) ... ولكم ألف بساط في الفضاء
فهل هؤلاء الشعراء لا يضربون مع المتنبي على وتر واحد في هذه النغمة؟
والخلاصة أن المتنبي كغيره من الشعراء صدرت عنه أقوال ظاهرها الاستخفاف بأمر الدين ولكن لا نحكم بمقتضاها أنه فاسد العقيدة حتى نحكم على غيره من الشعراء بله العلماء أنهم كذلك، فأن بعضهم أسوة بعض في هذا الأمر
وأما أخلاقه فلسنا بحاجة إلى التنويه بما كان عليه من علو الهمة والشجاعة والصدق والوفاء، فإن شعره مملوء بشواهد ذلك حتى لقد بلغ من علو الهمة أن عابه خصومه بهذا الخلق، فمنهم من لقبه بالمتنبي لتشبيهه نفسه بالأنبياء، ومنهم من جعل ذلك مرضا نفسيا أشبه ما يكون بالجنون. والواقع أن المتنبي كان يسرف في التعظم وإن كان له سلف في ذلك، فانظر إلى قوله:
أي محل أرتقي ... أي عظيم أتقي