للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عينه عن الحقائق

الحب لفظ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركان وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحاً؛ وهو خداع من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب، ويجعل كل بلاهته في المحب، فلا يكون المحبوب عند محبه إلا شخصاً خيالياً ذا صفة واحدة هي الكمال المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجود تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن

وذلك وهم لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقوم الحياة على الروح العملية التي تضع في كل شيء معناه الصحيح الثابت. فالحب على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام؛ ويجب أن يُفهم هذا الحب على النحو الذي يجعله حباً لا غير، فقد يكون أقوى حب بين اثنين إذا تحابا هو أسخف زواج بينهما إذا تزوجا

وذو الفن لا يفيد من هذا الحب فائدته الصحيحة إلا إذا جعله تحت عقله لا فوق عقله فيكون في حبه عاقلاً بجنون لطيف. . . . ويترك العاطفة تدخل في التفكير وتضع فيه جمالها وثورتها وقوتها؛ ومن ثم يرى مجاهدة اللذة في الحب هي أسمى لذاته الفكرية، ويعرف بها في نفسه ضرباً إلهياً من السكينة يوليه القدرة على أن يقهر الطبيعة الإنسانية ويصرّفها ويبدع منها عمله الفني العجيب

وهذا الضرب من السمو لا يبلغه إلا الفكر القوي الذي فاز على شهواته وكبحها وتحملها تغلي فيه غليان الماء في المرجل ليخرج منها ألطف ما فيها ويحولها حركة في الروح تنشأ منها حياة هذه المعاني الفنية؛ وما أشبه ذا الفن بالشجرة الحية، إن لم تضبط ما في داخلها أصح الضبط لم يكن في ظاهرها إلا أضعف عملها

ومثل هذا الفكر العاشق يحتاج إلى الزوجة حاجته إلى الحبيبة، وهو في قوته يجمع بين كرامة هذه وقدسية هذه لأن إحداهما توازن الأخرى، وتعدّلها في الطبع، وتخفف من طغيانها على الغريزة، وتمسك القلب أن يتبدد في جوه الخيالي

والرجل الكامل المفكر المتخيل إذا كان زوجاً وعشق، أو كان عاشقاً وتزوج بغير من يهواها استطاع أن يبتدع لنفسه فناً جميلاً من مسرات الفكر لا يجده العاشق ولا يناله

<<  <  ج:
ص:  >  >>