أقبل أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك. . . التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشد ما تكون عليه وإذا. . .
وإذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يُقدر ماذا كان، إلا هؤلاء الشاميون، وهؤلاء الفرنسيين الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروا مثلها التاريخ. . .
وإذا خمسون من الأطفال الذين لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة، ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة، قد فر من مدرسته وقمطره لا يزال معلقاً في عنقه، وحمل مسطرته بيده. . . ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعاً، وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي غنى عليها الفارابي، فأضحك وأبكى. . . هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وصغارنا تحمل خناجر ... وكبارنا عالحرب واصل
يا بِالوطن ... يا بِالكفن
فوقف الناس ينظرون إليهم، وقد عراهم ذهول عجيب. فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص. . . حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها فأشتعل الدم في عروقهم، وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت:
(يا سباع البر حومي. . . . . .)
وهم يرعدون بها. فتهتز من جهْجَهتها الغوطة، ويرتجف قاسيون. وأقبلوا كالسيل الدفاع. . .
ولكنهم رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب، ثم أنفتح برجها، وخرج منها شاب فرنسي يبتسم للأطفال، وإن في عينيه لأثر الدمع من التأثر، ويداعبهم، ويقدم لهم كفاً من الشكولاته، ثم يعود إلى مخبئه!
إنسانية قد توجد حتى في الدبابات!
ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي، وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن