شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي. . . فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة. . . ثم تغمض عينيها، فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي. . حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها، ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس، فخفق قلبي خفوقاً شديداً، واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفاً في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام؛ ثم أشعل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفت حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار، فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتاً ينظر إلي نظرات غريبة، اجتمعت هي ورهبة المكان، وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى، لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. . . ثم أخذ أبي يدي بيديه، بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت:
- يا بني! إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال (ديوان التفتيش)
فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم وأنا غاد إلى المدرسة، ورائح منها - فمن رجال يصلبون أو يحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن، أو تبقر بطونهن، فسكت ولم أجب،
- فقال لي أبي: مالك لا تجيب؟ أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟