كنت يومئذ صغيراً، لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي - رحمه الله - يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من (الكتاب المقدس)، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الأسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين، كأنه قد بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إلي بلهفة وحزنٍ، ويحرك شفتيه فعلَ من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاني ظهره، وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً - وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية - ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً؛ ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق، كأني كنت غائباً عنها عشرة أعوام - وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الأسبانية، ولا اعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحولاه، وأخذا يتكلمان بالأسبانية فأعجب وأتألم وأذهب أظن في نفسي الظنون حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وإني لقيط جاءا به من الطريق فيبرح بي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزل فأبكي بكاء مراً - وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن مزاج الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب، فأجلس وحيداً أضع رأسي بين كفي، وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات. . . حتى يجذبني الخوري من قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. . .
وولدت أمي مرة؛ فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل، لم يبتهج ولم تلح على