كان عامة الجمهور في (حلب) يعجبون لهذا الرجل الغريب، يجدونه عند كل حجر عتيق من أحجار المدينة، يتسلق الضخر، ويعلو الجدران القديمة، والأسوار المتهدمة، وبيده ورقة وقلم، يخط سطوراً، لا يبالي بالهامس حين يمر أو الساخر حين يتحدث إليه ساعات من نهار، يستنطقه عن الماضي القديم، ويستخبره عن الأجيال السالفة.
وكان منظر الرجل يثير كذلك دعابة حينا ودهشة حيناً آخر، فقد أرسل لحيته، ولبس البسيط من الثياب، وجلس جلسة ابن البلد إلى الحجر والتراب، يقتلع العشب عن الحجر، ويمسح عنه الغبار، كأنه شحيح ثناياه عن كنز مدفون وثروة مخبوءة. على أن الناس يمرون بهذا الصخر والحجر عشرات المرات لا يبالون ولا يأبهون، فقد ألفوا أن يروا في سبيلهم كتابات عريضة لم يحاولوا أن يقرءوها، وتواريخ مسطورة لم يجربوا أن يفهموها، ومالنا ولهذا الجنون الأوربي إذ يكلف بالغريب ويعكف على العجيب؟
وكان الرجل على ذلك كله ماضياً في عمله لا يهمه تهامس الناس حوله، ولا نثنيه نظراتهم المريبة شكلهم الملح، فهم يرمونه بالجهل إذ يضيع أيامه بما لا ينفع الحياة ولا يجلب المال.
وظل على ذلك سنين انتهى بعدها إلى كتاب صغير نشره بالفرنسية صور فيه الأبنية الأثرية، ورسم مصوراً لهذه الأبنية، وخلص إلى نظرية جديدة هزت المستشرقين طرباً، فقد وقفوا على صورة (حلب) كما كانت قبل ألف عام، أو تزيد، وحدد أماكن الجدران والأسوار من هذا المصور. وبين مواقع المساجد والجوامع والتكايا، وكأنه قد بنى المدينة على الورق من جديد، ولم يبق إلا أن يرسم هؤلاء الذين عاشوا بين جدرانها تتقلب عليهم الحروب، وتهزهم الغزوات، وأن يعين أماكنهم وحاراتهم.
وعرف المؤرخون الغربيون عن حلب ما لم يكونوا يعلمون؛ فقد رسم لهم المستشرق (جان سوفاجه) مواقع المعارك التي دارت خلف الأسوار، وصور لهم بلاط الحمدانيين والمرداسيين والأيوبيين والأتراك.
واشتركت مصر في تعريف هذا الجهد! فنشرت للرجل في مجموعاتها ما عثر عليه من كتابات، ونشرت إلى جانبها الترجمة الفرنسية والتعليقات العلمية. وتنبه المؤرخون كذلك