للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لوجه الله ولوجه الحق]

معضلة المعضلات في مصر والشرق

للدكتور زكي مبارك

قبل أن أشرع في التعقيب على مقال الأستاذ عباس محمود العقاد ألتفت إلى بعض القراء فأقول: لا يستطيع الكاتب أن يظفر بثقة القارئ إلا إذا زهد في تلك الثقة كل الزهد، وليس معنى هذا أن يستهين الكاتب بعواطف القارئ، ولكن معناه أن يتحرر من رغبة الظفر بثقة القارئ، ليستوحي العقل والقلب والوجدان، وقد خلص من شوائب التودد إلى بعض الآراء والأهواء، فعندئذ يطمئن القارئ إلى أنه يقرأ كلاماً سلم منبعه من أقذاء التصنع والرياء.

أكتب هذا وقد تلقيت في الأسابيع الأخيرة رسائل يدعوني بها كاتبوها إلى الخروج من الميدان الأدبي، بحجة أني أبلبل أفكارهم وأدخلهم في محرجات من الحقد والبغضاء، وهم يعجبون من أن يصبر عليَّ قراء (الرسالة) على كثرة ما آذيتهم في تلك الأعوام الطوال (؟!).

وأجيب بأني أعجب مما يعجبون، وأشتهي الخروج من الميدان الأدبي، لأخلو إلى نفسي لا إلى قلمي، ولأتذوق الراحة من متاعب التفكير في نفع القراء.

ولكن خاطراً واحداً يصدني عما أريد ويريد بعض الثائرين: وهو الخوف من أن يخلو الميدان الأدبي من كاتب يثير في صدور القراء ثائرة الغيظ والحقد من حين إلى حين. فتلك الثائرة من أكرم الحظوظ الوجدانية، ولا تخلو الصدور من معاني البغض إلا حين تخلو من معاني الحب، ومن البغض والحب يقوم هيكل الوجود.

فالأديب الذي يثور ويهتاج كلما قرأ لي مقالاً لا يرضيه، هذا الأديب سيعض بنان الندم إن استجبت لرجائه فطويت عنه عدوان قلمي. وكيف يعيش هذا الأديب وهو لا يجد الكاتب الذي يبلبل أفكاره ويدخله في محرجات من الحقد والبغضاء؟

أخوف ما أخاف على اللغة العربية أن يصير جميع كتابها من المرضيِّ عنهم في جميع الشؤون، فالكاتب الذي يرضى عنه القراء في جميع الأحوال قد يتعرض للتفاهة والابتذال، وقد يمسي وهو حاك لا يجيد غير مضغ الحديث المعاد، إلا أن يرتفع جميع القراء فلا يرضيهم غير الذهن المبتكر والعقل الوثاب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>