عرفنا أسلوب أبي العيناء مع الخلفاء والأمراء والوزراء، فما رأيناه مع أحد منهم إلا صريحاً؛ فلا يستغرب بعد ذلك إذا أفاض في مداعباته كل الإفاضة مع الطبقتين الوسطى والدنيا، لأن معارفه فيهما كانوا كثيرين، وكان - بحكم الصداقة - أشد رغبة في التفلت من كل كلفة، وأكثر طواعية في الإقبال على كل ما يدخل السلوى على محبيه.
ولا بد من الإشارة إلى تلك العلاقة القوية التي توطدت بينه وبين الجاحظ: فقد كانا صديقين لا كلفة بينهما، بل قد اشتركا سوياً في وضع حديث (فدك) كما يعرف المشتغلون بعلم الحديث. وخلاصة هذا الحديث أن السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم طالبت بعد وفاته بنصيبها مما ترك، وأنها بكت وأبكت لتصل إلى ما تبغي. والحديث باطل من أساسه كما اعترف أبو العيناء بذلك حين قال:(أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك) وقال إسماعيل بن محمد النحوي: (كان أبو العيناء يحدث بذلك بعدما مات الجاحظ). وقد ذكره ابن حجر في (الموضوعات).
وإن علاقة بين اثنين تسمح لهما بوضع حديث مشترك لهي علاقة متينة لحمها التفاهم وسداها الانسجام: فلا بدع إذا رأينا الجاحظ يسلك في مداعبة أبي العيناء سبيلا لا يسلكه إلا الأحبة، ويقابله الآخر برضا وارتياح. والقصة التالية تلقي ضوءاً على نوع الصداقة التي استحكمت عراها بين الرجلين.
قال أبو العيناء: (كان لي صديق فجاءني يوماً فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه؟ فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ - وهو صديقك - فأحب أن تأخذ لي كتابة إليه بالعناية؛ فصرت إلى الجاحظ فقال لي: في أي شيء جاء أبو عبد الله؟ فقلت: مسّلماً وقاضياً للحق، وفي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا