(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع ١٩٣٥
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ على الطنطاوي
تركَنا القراء في (المخفر السعودي) على الحدود. وأشهد أني لم أذق طعم الأنس والاطمئنان مذ فارقت دمشق إلا في هذا المخفر، ومهما نسيت من المشاهد، وأضعت من الذكريات، فلن أنسى تلك الساعة، ولن تضيع من نفسي ذكراها، وإنني لأتخيلها الآن، وقد مر على تلك الزيارة خمس سنين، ولم يبق في يدي منها إلا ما علق بذهني. . . أتخيل تلك الخيمة الشَّعرية الشِّعرية، الجاثمة على ذلك التل العالي، تطل على التلال التي لا يحصيها عد، وقد اتكأت فيها على جنبي، ونظرت إلى أسفل مني فرأيت السلوك الشائكة، فعجبت منها سلكة لا يعبأ بها تفرق الأخ عن أخيه - وتجعل الشعب شعبين - ثم مددت بصري حتى ضل في ثنايا السراب المتألق في وهج الظهيرة؛ ثم بلغ (دمشق)، دار الحبة وثوى الأماني، فهزني الشوق إليها والفجر بها، والأسى عليها لما أصابها. . . ثم رجعت البصر إلى البادية من حولي، فسرَتْ في روحي روحها، فشعرت كان قد صهرتني شمسها، فغدوت كأولئك الذين خرجوا منها جنّاً في النهار، ورهباناً في الليل، وموتاً للظالمين والمبطلين، وحياة للشعوب ورحمة للناس. . . وتمنيت لو كان اليوم إلى اليرموك أو القادسية طريق، حتى أسلكه كما سلكه أجدادي الأمجاد. . . وهيهات أن يكون للشباب الذي أضاع روح الصحراء إلى مثلها طريق. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجئ كل مسلم أسد
وأكلنا من طعام الجند وهو الزبد والرز والتمر، وشربنا من ألبان النياق وما ألذه من شراب. . . وتبادلنا أطيب الحديث فكان بشرهم وحديثهم قرى حلواً كتمرهم، سائغاً كلبنهم. ثم سألونا عن الطريق الذي نسلكه فأشرنا إلى الدليل؛ فحدثوه فوجدوه أجهل بالبادية من (الكناني) وأصحابه بلغة العرب، ووجدوه يضرب بنا على غير هدى ويسير على عشي. فأتمّوا صنيعهم معنا، فبعثوا واحداً منهم يصحبنا إلى (القريات) يرشدنا ويهدينا، وكان هذا