كثرت في العصر الحديث مقالات الأدباء والنقاد في الزراية بالشعر الجاهلي، وتنقصه، ورميه بالقدم والجمود، والدعوة إلى تركه والانصراف عنه؛ وعيبه حينا بخلوه من الشعر التمثيلي والقصصي، وحينا بتفككه وعدم وجود وحدة للقصيدة في آثاره الفنية الباقية، وباضطراب معانيه وعدم تمثيله إلا للبيئة البدوية الجاهلية وحدها، وحينا آخر يرمونه من ناحية الصياغة واللفظ والنظم بأكثر مما يعاب به شعر قديم أو حديث.
وقد حمل لواء هذه الدعوات أدباء كان نصيبهم من دراسة الأدب العربي أو الأدب الجاهلي وحده محدوداً ضئيلاً؛ وآخرون قرءوا الأدب الجاهلي فلم يطربوا له، ولم يرتاحوا إليه، ولم يفهموه حق الفهم؛ وفريق آخر تدفعه إلى ذلك الشعوبية الحديثة التي نرى نظهرها باديا في تنقص كل ما هو عربي أو قديم والتعصب لكل ما هو غربي أو حديث.
ولا شك أن في أكثر آرائهم جوراً في الحكومة الأدبية وإسرافاً ومغالاة كثيرين. (فلكل شعر جيد - كما يقول الدكتور طه حسين بك في الأدب الجاهلي - ناحيتان مختلفتان، فهو من ناحية مظهر من مظاهر الجمال الفني المطلق، وهو من هذه الناحية موجه إلى الناس جميعا مؤثر فيهم، ولكن بشرط أن يعدوا لفهمه وتذوقه؛ وهو من ناحية أخرى مرآة يمثل في قوة أو ضعف شخصية الشاعر وبيئته وعصره، وهو من هذه الناحية متصل بزمانه ومكانه؛ فازدراء الشعر الجاهلي غلو ليس أقل إمعانا في الخطل من ازدراء الشعر الأجنبي)
إننا لا ننكر أنه تحول دون فهم الشعر الجاهلي وتذوقه صعوبات كثيرة، أهمها صعوبة لغته وأسلوبه وبعد الأمد يصور البيئة العربية القديمة وألوان الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي ومشاهد الطبيعة والوجود إبان ذلك العهد البعيد. ولكن ذلك لا يمكن أو لا يصح أن يصرفنا عن هذا الجمال الفني الرائع الذي نجده في الشعر الجاهلي. فضلاً عما فيه من تخليد لآثار الحياة العربية الأولى وأحداثها ومظاهر التفكير فيها. ومع ذلك كله فإن الشعر الجاهلي أقوى دعامة للعربية وحفظها وخلودها بعد القرآن الكريم.
فهو من حيث أنه صورة من صور الفن والخيال والجمال، ومن حيث أنه أساس الثقافة الأدبية والعربية؛ لا يمكن لذلك ولغيره أيضاً الاستغناء عن هذا الشعر القديم ونبذه وراءنا