للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[محمود حسن زناتي]

كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن؛ فالطبع مرح فكه، والهوى درس الأدب وقرض الشعر، والسن فتية لا تجاوز السادسة عشرة. وكان طه قاعدة المثلث، ومحمود وأنا ضلعيه القائمتين، أو كان المبرد صاحب الكامل قلب الطائر، والزمخشري صاحب الكشاف، وثعلب صاحب الفصيح، جناحيه الخافقين وتلك كانت ألقابنا على الترتيب، لقب بها بعضنا بعضاً لنزعة فكرية أو فنية كان ينزعها كل منا في نظر أخويه. ووجه الشبه بيننا وبين المثلث أن وجودنا كان كوجوده، لا يتصور في الذهن ولا في الخارج إلا بأضلاعه الثلاث على أي شكل يكون وأما وجه الشبه بيننا وبين الطائر فإن حياتنا كانت كحياته، تردد إلى كل روضة، وتغريد على كل شجرة، وتحليق في كل جو. كنا نتنقل من حلقة العلم إلى درس الأدب، ومن درس الأدب إلى مجلس الشعر، ومن مجلس الشعر إلى دار الكتب، ومن دار الكتب إلى الجامعة المصرية القديمة، ومن الجامعة إلى إدارات الصحف نعرض عليها ما كنا نسميه يومئذ شعراً؛ ثم ننتهي إلى دار أحدنا فنتدارس ما حصلنا من علم، ونتذاكر ما حفظنا من أدب، ونتنادر بما سمعنا أو رأينا من سخف، فإذا أخطأنا أو نسينا لجأنا إلى ذاكرة طه العجيبة فتعيد ما وعت لا تخرم منه حرفاً؛ فنصحح أو نستكمل أو نستفيد. وإذا سئمنا أو ونينا فزعنا إلى حافظة محمود الخصيبة فيسري عن خواطرنا بمقطعات من أعذب النوادر يحكيها عن نفسه، أو يرويها عن أبيه، أو ينقلها عن حياته وزناتي محدث طليق اللسان متفنن الحديث تسمع منه النادرة عشرين مرة وكأنك لم تسمعها من قبل لجمال عرضه وجاذبية أسلوبه. ثم كان الطائر بقلبه النابض بالأمل والحب، وبجناحيه لخافقين بالخيال والنشوة، يضيق أحياناً بعشه الباغم في ركن من الرواق العباسي بالأزهر المدوي الهادر، فيخرج إلى هدوء الطبيعة يستمتع بمفاتنها في خمائل المطرية أو حدائق الجزيرة، فنتصل بالحياة العصرية، وننال من ثمار المدينة، ثم نعود إلى الأزهر فنجد الاختلاف شديداً بين حياته وحياة الناس فنقلق ونثور، ويكون مظهر هذا القلق وهذه الثورة التمرد على الأزهر المنعزل عن العالم، والسخر من الطلاب المنصرفين إلى الفقه، والعبث بالشيوخ الجاهلين بالأدب وكنا حينئذ في عهد اليفاعة حين يكون العيش كله حباً عارماً لحبيب غير مشهود ولا معهود. كان كل منا يحب أخويه حباً غلب على كل شيء. فإذا اجتمعنا عكفنا على هوى واحد هو الأدب، وإذا افترقنا نزعنا إلى هوى واحد

<<  <  ج:
ص:  >  >>