ألفت منذ سنين أن أزور رمضان في ربوعه الأصيلة، ومغانيه الباقية. ومن لم يشهد رمضان في حي الحسين، أو في حي الحسينية، أو في أمثالهما من الأحياء القديمة لم يشهد قداسته المهيبة وجلالته الباهرة!
كنت في إحدى الليالي الزّهر أخرج متى استيقظت المشاعر من فترة الصيام، وسكرة الطعام، فأعبر القرون العشرة التي تفصل بين قاهرة الملك فؤاد وقاهرة الخليفة المعز، فأجد رمضان العظيم قد نشر بنوده، وأعلن وجوده، في كل شارع وفي كل منزل! فهو خير يتدفق في البيوت، وبشر يتهلل في الوجوه، وأنس يتطلق في المجالس، وذكر يتضوع في المساجد، ونور يتألق في المآذن، وسمر ينتقل في الأندية، ونفحات من الفردوس ترطب القلوب، وتلين الأكباد، وترف على ما ذوى من العواطف
فالحوانيت سامرة وإن لم تبع، والمصانع ساهرة وإن لم تنتج، والأبهاء عاطرة بحديث الأحبة حتى نصف الليل، والأفنية عامرة بذكر الله حتى أول السحر. أما كثرة الناس فقد أخذوا مجالسهم من قهوات الحي وباتوا ينضحون (مزاجهم) الظامئ بالفناجيل الرويّة، ويشققون أحاديثهم الطلية بالنكات المصرية، ثم يستمعون في خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص أو الشاعر، وقد طوفت به أشباح القرون، وغمغمت في صوته أصداء الزمن. يتربع في صدر المكان على منصة عالية من الخشب العتيق، وهو في سمته وهندامه ولهجة كلامه وطريقة سلامه نموذج العامي الأديب، ومثال الحضري المثقف: حفظ كثيراً من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب، وروى صدراً من الأمثال فاكتسى وقار الحكمة، ووعى طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة. وهو إلى ذلك بارع النادرة، دقيق الفطنة، عذب المفاكهة، حاضر الجواب، يؤدي هذا إلى الجمهور الغرير الساذج دعوة الواعظ، وأمانة المعلم، ورسالة الأديب
هاهو ذا قد فرغ من احتساء القهوة، وجباية النقوط ومبادلة السامع المعتاد جميل التحية، ومسارقة الزائر الممتاز رغيب المنظر؛ ثم أخذ يحتفل للقصص أو الإنشاد، فاحتسبت قهقهة (النكتة)، وانقطعت قرقرة (الجوزة)، وانتشرت سكينة الجد في القهوة، واتجهت عيون الجميع إلى المنصة، ثم رن في سكون القوم ذلك الصوت العريض المتزن يرسل الكلام والأنغام في ترجيع مؤثر، وتقطيع معبر، وتنويع مطرب؛ فهو يفخم ويرقق، ويقسو ويلين،