إني على يقين بأن العمل الفني إذا توافر له جوهر الأدب من إثارة العاطفة، ومنادمه الوجدان، ومن تناول العناصر الحية في المجتمع البشري، ومن تصور النزعات النفسية النابعة من موارد إنسانية أصيلة، فإن هذا العمل الفني صالح لأن يكون شعبياً يستمرئه الناس على اختلاف مراتبهم من المعارف والمدارك؛ وأنهم ليستجيبون له، ويتأثرون به، ويجدون له في أنفسهم بلاغا ليس وراءه بلاغ.
أعرف فيما أعرف سيدة تقرأ العربية، ولكنها غير متضلعة منها، فأما الشعر العربي فإنها لا عهد لها به، ولعلها تتجنبه ثقة منها بأنها لا تملك له فهما. وأظهر ما تتميز به هذه السيدة أن العاطفة تحيا ولها تعمل، ويوما عرضت على إحدى المجلات مشيرة فيها إلى أبيات من الشعر يناجي بها الشاعر طفله، وما عتعت أن أخذت تقرأ على هذه الأبيات، جياشة الحماس مستعذبة ما تقرأ، مسهبة في شرح ما تجد من جميل المعاني، تدلني بذلك على أنها فهمت مرامي الشاعر وأغراضه، وأن غمت عليها مدلولات الألفاظ على الوجه الدقيق. فهذه السيدة قد تأثرت عاطفتها بتلك الأبيات، طوعا لما تضم بين جوانحها من مشاعر الأمومة المتوقدة، فالشاعر قد عالج لها موضوعا ينزل من نفسها في المكان الأول، وعبر لها عما تشعر به الأم نحو طفلها تعبيراً فنياً جميلاً، فيه النغمة الموسيقية التي هي أقرب إلى هدهدة الطفل في مهده الحبيب، ومن ثم استجابت الأم لهذا اللون منالشعر، لا بما تفهمه وتعقله في هذا الفن من الأدب، ولكن بما استشعرته لذلك الموضوع الذي عالجه الشاعر الفنان، وكان حسبها في هذه الاستجابة جملة ألفاظ فهمتها من أبياته، فكانت هذه الألفاظ جسراً يصل بين شعورها وشعوره.
وأذكر أني كنت في عهد الصبا أحرص على شهود المحافل التي يلقي فيها شاعر النيل (حافظ إبراهيم) قصائده الشعبية في الشؤون الاجتماعية والسياسية العامة. وكان كعهده يؤثر أناقة اللفظ وجزالة العبارة حتى ليفتقر النشء المتأدبون في فهم كلماته إلى معجم، وأنا يومئذ قليل الزاد من الفصحى، ولكني على الرغم من ذلك ما أكاد استمع إلى (حافظ) ينشد،