مضى اليوم أكثر من شهرين مذ بدأت فلسطين ثورتها القومية المضطرمة؛ وقد حسب الاستعمار يوم نشوبها أنه أمام حركة تذمر عادية يسهل قمعها بالوسائل المعتادة فإذا به أمام ثورة قومية عامة، وعزم راسخ على النضال، ومعركة حياة أو موت من شعب يؤثر السقوط في ميدان الكفاح الشريف، على الإعدام البطيء المنظم.
ولقد بسطت (الرسالة) قضية فلسطين في مقال سابق، بين فيه كاتبه مبلغ ما ترزح تحته هذه الأمة الصغيرة الباسلة من صنوف الاستعباد المرهق، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سواء من جانب السياسة البريطانية التي قضت باختيار فلسطين منزلاً للوطن القومي اليهودي أو من جانب الصهيونية التي تعمل لتوطيد دعائم هذا الوطن اليهودي بكل ما وسعت من وسائل الضغط المالي والثقافي متمتعة في جهودها برعاية السياسة البريطانية ومؤازرتها.
وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نتنبأ بما تفيده السياسة البريطانية من هذا الدرس، أو بما تزمع أن تتخذه من الخطط الجديدة في المستقبل نحو فلسطين، فأنا نستطيع من جهة أخرى أن نقول إن هذه الفورة العنيفة التي قامت بها فلسطين سيكون لها أثرها العميق في صدع أركان الوطن القومي اليهودي، وفي التدليل على ما في صياغته وتكوينه من أوجه الخيال والعوامل المصطنعة التي تتعارض مع الحقائق التاريخية والعلمية.
إن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، هو الخطوة العملية الأولى في برنامج الصهيونية الحديثة؛ وهو التمهيد لإنشاء الدولة اليهودية التي هي غاية الصهيونية الحقيقية؛ واليهودية تحلم بإنشاء هذا الوطن القومي وتعمل له منذ أكثر من قرن؛ ولكن برنامج اليهودية النهائي لإنشاء الوطن القومي لم يوضع إلا في أواخر القرن الماضي، حيث بدأ زعماء اليهودية يجمعون المال لإنشاء المستعمرات في فلسطين ويبذلون جهودهم لدى الباب العالي، وحيث أذاع تيودور هرتسل، رسول الصهيونية الحديثة وروحها المضطرم، رسالته الشهيرة عن الدولة اليهودية: وهرتسل كاتب وصحفي يهودي نمسوي، ظهر في أواخر القرن الماضي في فينا بكتاباته الملتهبة في سبيل القضية اليهودية، فالفت صيحته أفقاً