للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القَصصُ

مادلين

للأديب يوسف جبرا

(لم تجف الزهور البيضاء التي وضعوها على قبرك، ولم تتلاشى أصداء النواح من الأفق بعد. لقد كف جرس الموتى عن دقاته الحزينة المتفرقة، ولكن الأسى لم يكف عن دق الصدور التي اشتملت على صورتك الحبيبة يا مادلين، والدمع لم يكف عن الاشتعال في مآق تسهر الليل بعدك. . .

هاهي ذي الشمس تغمض جفنيها بين فلذات من الدم القاتم، وهاهو ذا وشاح الليل يلف الكائنات، وهاهي ذي الأشجار الضخمة في نواحي المكان ساكنة واجمة. . . الجميع يشاركونني آلامي ووحدتي. . . وأنت في طي لحدك يا مادلين راقدة، كما رقدت ماجد ولين المسكينة من قبل!)

أقبلت علينا صاحبة النزُل في صباح تقول: بشرى لكم. . . إن أسرة صغيرة من مواطنيكم توشك أن تحل هنا: أب وابنه وابنته. . . لقد أعددنا الغرفة المجاورة وهيأناها، وستكون هنا في المساء).

وانطلقت صاحبة النزل فانضمت إلى أختيها في الغرفة الكبيرة التي كنا نسميها (الإدارة). كن ثلاث أخوات سوريات يشتغلن بالخياطة ويدرن هذا النزل الصغير الأنيق. وكان للثلاث طابع واحد. . . بدانة مفرطة تصحبها رقة وظرف - وكثيراً ما تكون البدانة والرقة صنوان!

أما (الإدارة) فهي المكان الذي تجلس (الزكائب) الثلاث في ناحية منه معظم النهار. . . بينما تتناثر في النواحي الأخرى ماكينات الخياطة، والفتيات اللواتي يتعلمن المهنة، وخليط من الأدوات والأقمشة والسلال. . . دائماً! وفي هذه الغرفة يتشاور الثلاث البدينات همساً في ما يهمهن من الأمور التي تختص بالنزلاء؛ وفي هذه الغرفة تقوم (الزبونات) بتجريب (البروفة) أمام المرآة وتسلم الثياب التي تكمل خياطتها.

وفي هذه الغرفة تنعقد جلسات عائلية بين الأسر المقيمة بالنزل، فينصت الجميع إلى حكايات طريفة تحكيها (الزكائب) عن أصلهن الرفيع وعن الشبان الذين تقدموا للزواج

<<  <  ج:
ص:  >  >>