حين تفسد الفنون في أمة من الأمم تفسد فطرتها، والعكس صحيح، فما تفسد سليقة الأمة حتى تتبعها الفنون؛ ومن هنا كان اهتمامنا بمكافحة (الغناء المريض) لأننا نكره لهذا الشعب أن تفسد فطرته، كما نكره له أن يكون عنوان هذه الفطرة هو هذا الغناء.
والموسيقى والغناء أمسُّ بضمائر الشعوب من سائر الفنون، فقد يكون الأدب كما يكون النحت والتصوير لغة جماعة من خواص المثقفين المدبرين على الإحساس والفهم، أما الموسيقى والغناء فهما لغة البداهة والتعبير المباشر عن أعماق السليقة
نعم إن الطبائع تتفاضل في فهم الموسيقى والغناء والحس بهما، ولكن يبقى مع ذلك فارق أصيل بين السلامة - وهي أولى درجات الفنون، والمرض - وهو لا يلتبس على طبيعة مستقيمة أو فطرة سليمة.
ونحن لا نتطلب من الملحنين والمطربين اليوم سمواً في التعبير عن الفطرة الإنسانية ولا امتيازاً في الإحساس على الجماهير، ولكننا نقنع فقط بالسلامة في الشعور الإنساني، بل نتواضع فنقنع بالسلامة الحيوانية، غير أننا لا نجد حتى هذا المطلب المتواضع فيما يذيعونه من أغنيات ولحون.
ويبدو أننا مبالغون فيما نطلب من هؤلاء الناس، وأنه تكليف مجهد لطبائعهم ولثقافتهم ذلك التكليف الذي نسومهم إياه. وإذا كانت هناك بارقة من أمل فلن تكون من محاولة توجيههم أو تقويم فطرتهم أو رفع مستوى إحساسهم؛ فذلك ما لم يتهيئوا له، ولكن المحاولة يجب أن تتوجه إلى وخز طبيعة هذه الأمة، فإن كان فيها خير عافت هذا الترجيع وانصرفت عن هذا الترنيم، وإلا فقد (وافق شن طبقة) وعفاء على الجميع!
ووجه المبالغة فيما نكلفه هؤلاء الناس أن الموسيقى والغناء مهما يكونا لغة الفطرة وتعبير البداهة، فهما في حاجة إلى طبائع سليمة، وتلك موهبة لا يؤتاها إلا القليلون وإن كانت تبدو حقاً مباحاً للجميع، وفي حاجة إلى ثقافة عقلية ونفسية كذلك وإلى فهم أو إدراك لدُني لمهمة الفنون، وتلك شقة بعيدة علة نشأة هؤلاء القوم، وآفاق لم يفتحوا أعينهم عليها ولم يتطلعوا مرة واحد إليها.