للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشاعر في الشارع]

للأستاذ أنور لوقا

نشرت (الرسالة) في أعداد سابقة بعض أقاصيص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه. وألفونس دوديه كاتب ساحر، حلو الحديث، كبير القلب، ساذج عميق، أحبته النفوس على تنافر نزعاتها، واستعذبته الأذواق على اختلاف مواردها، والتف به الجمهور على تشعب مذاهبه وتناثر أهدافه. . . سحر النساء والشعراء، وسحر الكافرين بالشعور والضاربين في طين المادة، فتن أولئك المحلقين في الخيال، وفتن هؤلاء المحدقين في الواقع، راق المدنفين بالرقة، وراع الهاتفين للقوة، وأطرب الذين يجول الدمع في عيونهم، وأشجى الذين لا تفارق البسمات شفاههم، ومزج فيض الحنان بمرح الفكاهة دائماً. . .

كاتب ساحر نظر إلى الشيء الصغير نظرة كبيرة، وكشف في الشيء المبتذل ناحية طريفة، وقرن المعنى القديم بالظاهرة الجديدة، وصور الحقيقة الملموسة في وشى من الوهم الجميل. . .

وإذا حاولنا أن نقف على منبع هذا (السحر) في أدبه، رجعنا إلى شبابه ونشأته.

ليس من العبث أن يبدأ الأديب بالشعر، ولا الفتى الشاعر يضيع وقته لأنه ينفقه في الحلم والتأمل.

أو لا ينبغي للكاتب الناشئ أن يعيش في برج من العاج قبل أن يهبط إلى الأرض، ويخبط في زحمة الشارع؟

يقول الناقد (جول لميتر) في سياق حديث له عن ألفونس دوديه: إن خير ما تفعله، حتى نحسن تقدير ما تعج به الدنيا، هو أن نلم أول الأمر بأطراف من جمال السماء. . . وتلك ملاحظة خليقة بأن تسلط الضوء على وجه كاتبنا الساحر من زاوية ممتازة.

ومن هو الشاعر؟

يجب أن نتفق أولاً على أنه ليس الذي ينظم الأبيات، كما تظن العامة دائماً.

الشاعر قبل كل شيء - وما أصدق تسميته في اللغة العربية - كائن مرهف الشعور، يسره شيء صغير، ويبكيه شيء صغير، وتكاد تهتز أوتار حسه من لا شيء. . .

إنه يستأنس الأشياء جميعاً، ويندمج في وجودها، ويعيش فيها وتعيش فيه، فيخفق قلبه إذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>