إذا عُنينا في هذا المقال بالحديث عن صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي مؤرخاً، فليس معنى ذلك أن هذه الصفة وحدها خصوصيته التي بها امتاز، ولأجلها ذكر وفضل بين أعلام الأدب العربي. ذلك لأنه كان كاتباً مترسلا له منهج، وأدبياً كيساً له ذوق، وشاعراً قادراً ذا نزعة. وهذا إلى جانب أنه من هواة التأليف، بمعنى أنه ذو فن في اختيار موضوعاته، وله ولوع بتلمس مادتها من بين الغرائب التي تند عادة عن الأذهان، أولا تفطن إليها في هوادة ويسر. وكل خصوصية من هذه، جديرة بالدرس والبحث والتمحيص حتى تبرُز نفاستها للعيان.
والصفدي إلى جانب هذا وذاك - مكثار في نثره وشعره وتأريخه، لا يرضى في عمله الأدبي بالموجز المقنع أو القليل النافع، ولم يعمل قط بتلك الحكمة التي تقول:(خير الكلام ما قلَّ ودلَّ). وكأنما كان يشعر أن ليس وراء الإيجاز إعجاز، ولا غب الاقتضاب إعجاب. وأن المقل إما أن يُبقي شيئاً في ضميره، أو يعبر عن عجزه وتقصيره. وإذا كان الأديب بعد أن يبعث خواطره مقالة باهرة، أو ينفث مشاعره قصيدة عامرة، يشعر أنه لم يبعث في جميع ما في فؤاده، ولم ينفث كل ما في نفسه، وأن شيئاً في أعماقه لا يزال يقلقه ويؤرقه، التمسنا العذر لصلاح الدين الصفدي في هذا الإكثار الذي لم يبغ من ورائه إلا أن يبرز أكثر ما يستطيع إبرازه من خفيات خواطره، ومدخرات نفسه، جاهداً في أن لا يبقي في طواياها بقية يقلقه بقاؤها - وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الأديب، حتى يمتع الناس بأكثر أدبه وفنه. وفي سبيل ذلك الإمتاع يتناسون له غثه وسقطه. وإن كان الأديب الموهوب معجباً في إكثاره أو إقلاله.
كان الصفدي إذاً مكثاراً، طبعه في ذلك طبع الأديب المليء لا يهدأ لسانه لهجاً بالأدب وترديداً له، وفي نفسه مشاعر تجيش، وفي أطوائه أحاسيس تثور. وكان له مذهب في الكتابة والشعر يلتزم فيهما أموراً وقيوداً على رأسها الجناس، فقد كان متعصباً للجناس مخالفاً في ذلك مذهب أدباء عصره الذين كلفوا بالتورية ولم يشغفوا بالجناس إلا إذا خرج