للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بردى. . .]

والتاريخ العربي

للأستاذ علي الطنطاوي

(بردى) سطر من الحكمة الإلهية، خطته يد الله علىفحة هذا الكون، ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل - وخصَّته للأمة العربية، فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.

والقرآن الذي جعل الآية المعجزة في القرآن - هو الله الذي جعلها في الأكوان.

والله الذي أعجز ملوك القول، وأمراء البلاغة، بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الله الذي أعجز قادة العقل، وأئمة الفلسفة. بسور من بحار وإنهار وكهوف.

وما (بردى) إلا سورة من قرآن الكون المعجز البليغ - وليس إعجازه في أنه يجري؛ ولكن إعجازه في أنه ينطق. وبأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور. وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم: أمة ولدت في حجره، ورضعت من لبانه، وحبت بين يديه، ثم قويت واشتدت، وبنت فأعلت، وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور، وحسبت إنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتت واستكبرت، فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العدم، فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى، وأنقاض هينة في أعماقه، وصفحة أوفحتان في كتاب التاريخ. وإذا بأمة أخرى تخلفها في أرضها، وترثها مالها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها: فقام الفينيقيون على أنقاض الحيثيين، والكنعانيوتنن بعد الفينيقيين، والفرس بعد الكنعانيين، واليونان بعد الفارسيين، والروم بعد اليونانيين، والغساسنة بعد الرومانيين، والمسلمون بعد الغسانيين - ثم قام العباسيون بعد الأمويين، ثم قاملاح الدين، ثم جاء الترك بعد السلجوقيين - ثم جاء فيصل بن الحسين، ثم جاءت جيوش الفرنسيين.

هكذا يدور الفلك في السماء، ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة، ويغطى على الحياة قبر، والسلسلة لا تنتهي، والناس لا يعتبرون. . . و (بردى) يبتسم ساخراً من غرور الإنسان، ضاحكاً من جهالته. يحسب نفسه شيئاً، فيضارع الكون، ويتطاول بعقله إلى الله؛ وما هو من الكون إلا ذرة من الرمل ضائعة في الصحراء، وما عمره إلا ثانية واحدة من عمر (برد ى).

<<  <  ج:
ص:  >  >>