إن موت مثل هذا العظيم ليس خطباً أمماً. لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطاً كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض؛ إنما كان كنزاً من الذهب في هذا التراب لا يزن العالمين بمثقال ذرة.
لقد رمي القالب الترابي إلى التراب، وحمل الروح والعقل إلى السموات)
ذكرت هذه الأبيات: أبيات جلال الدين الرومي حينما قرأت نعي الرافعي، واعجباً! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياء؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إذا شاء صور أحزانه مواسم، ورد أعياده مآتم؟
أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟
كلا كلا! إن مولد الحر في الدنيا قليل؛ وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد، ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت!
إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء فلا يزال وضّاء هادياً، أو كما يولد النهر في سفح الجبل فلا يفتأ جارياً ساقياً، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر ثم لا تموت.
إن الحر الكريم قطرة صافية تستمد الله، فلا يحول عنها نوره؛ ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع؛ وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان، إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وأن حد الناس مكانهم حد هو مكانه؛ فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل