كثيراً ما تقع أعيينا على صورة نقشها يراع رّسام بارع ليعبر بها عن فكرة من الأفكار فإذا هذه الصورة توافق هوى في نفوسنا لأول نظرة بحث نرى فيها خير ما يمكن التعبير به عن هذه الفكرة. كذلك قد نقرأ جملة قصيرة خطها قصصي أو ناقد يصف بها شخصاً من الأشخاص فإذا هذا الوصف بالنسبة لنا كأنه كان ضالة منشودة وصلنا أليها بعد طول عناء. . . كأن كلا منا كانت تتردد أمام عينه هذه الشخصية يريد وصفها وتحديدها ولكن عبثاُ، حتى جاءت الجملة التي قرأها فنزلت على قلبه وأعصابه المتلهفة القلقة برداً وسلاماً!
كان يجب أن يمر بنفسي هذا الخاطر وأنا أقرأ الدراسة القيمة التي كتبها في الشهر الماضي الناقد الفرنسي بنجامان كْرمُيو عن أندريه جيد. ذلك الكاتب الفذ الذي جاوز الخامسة والستين وهو مع ذلك لا يزال شاب القلب والنفس يتزعم مدرسة (التحرر الأخلاقي) في الأدب الفرنسي الحديث، ويعالج مشاكل الشباب النفسية وخصوصاً الجنسية والنزعات الطائشة المتغلبة التي تلازم الكثير منهم بصراحة جريئة وحرية لا حد لها حتى نفر الشيوخ من ذلك الكاتب الشيخ. واحتفظ الشباب بالولاء له وتمجيده والتهام أدبه
لم أكد أقرأ قول بنجامان كرميو:(لأن أول نظرة إلى أندريه جيد تبين لنا أنه مخلوق مضطرب قلق، معقد، يتركب من عدة شخصيات. ولكنه يمت إلى نوع نادر من البشر) ثم قوله. (وعندئذ لا نلبث أن نعرف أن فنه صورة منه). ولم أكد أقرأ ذلك حتى مرت أمام عيني كشريط سينمائي كل الصور التي رأيتها لأندريه جيد. وتذكرت عدداً من مجلة كان قد نشر - لمناسبة لا أذكرها الآن - بضع صور له في فترات حياته المختلفة: في الشباب والرجولة والكهولة. وتذكرت معه هاتين العينين الحائرتين، والوقفة المضطربة، والشارب المحلوق النادر بين الفرنسيين. الذي ينزل به من سن الستين إلى الثلاثين. فعرفت عندئذ مقدار ما في بنجامان كرميو من الصدق ودقة الملاحظة
نعم إن فن أندريه جيد وفلسفته هما قبل كل شيء صدى لمشكلة نفسه ومأساة حياته. فقد نشأ جيد في أسرة دينية متقشفة من أب بروتستنتي وأم كاثوليكية. وكان أثر بروتستانتية والده