نشرت إحدى الصحف ذات يوم أن بعضا من علماء الأزهر قد اجتمعوا ليستنبطوا مما شرع الله في الإسلام قوانين تحكم بها الدولة. فصادف هذا اخبر هوى في نفوس قوم، ونفورا في نفوس آخرين؛ وهتف أتباع هؤلاء في بعض الحفلات قائلين: القرآن دستورنا! واستطار النبأ في أجواء الأرض ففزع أصحاب الأموال في أوربا، واستراب رجال الأعمال في أمريكا، وقال مرضى الهوى أو الجهل منهم: نكسة الداء، ووثبة إلى الوراء! فلم يسع السياسيين إلا أن ينتفوا من هذا الخبر، ولا الأزهريين إلا أن يبرءوا من هذه التهمة!
أمر عجيب! إلى هذا الحد بلغ جهل الجهال بحكم القرآن فيصوروه هولة يفزعون بها الناس حتى أهله؟ إن كانوا من الذين يؤمنون بأنه من وحي الله فالله سبحانه لم ينسخه ولم ينسه، ولم يأت بخير منه أو مثله. وإن كانوا من الذين يزعمون أنه من وضع الإنسان فماذا يخشون منه وقد جربوه؟ لقد حكم الدنيا القديمة وهي همجية وفوضى، يتولاها الهوى، ويقودها الضلال، ويسوسها الجهل؛ فردها من الشرود المهلك، وأقامها على الطريق المؤدي: وأذاقها رخاء العيش المطمئن، وكفل لها من الحرية والعدالة والمساواة والكرامة ما كفل بعضه الدستور. وما الدستور؟ أليس هو في حقيقته وجوهره معنى من معاني القرآن ينبثق عنه كما ينبثق الشعاع عن الشمس؟
أعطوا الدستور ذوي الرأي من الراسخين في علوم الدين أمثال عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت بحدوا قرآنا كأول ما أنزل الله. وأعطوا القرآن أولى الرأي من المتضلعين من علوم القانون أمثال عبد الرزاق السنهوري وعبد الحميد بدوي تجدوه دستورا كآخر ما وضع الناس.
أما القرآن الذي تخشونه فليس قرآن الله، إنما هو قرآن مسيخ فسره جهال العلماء على قدر ما في عقولهم من قصور وزيغ، وما في نقولهم من خطأ وحشو؛ فضيقوا سعته، وحددوا شموله، وعوقوا تقدمه، وزيفوا صحيحه، وشابوا صريحه، ووقفوا به عند عصر معين، فلا يقبلون إلا قوله، ولا يجيزون إلا فعله، ولا يعلمون أن عموم الرسالة المحمدية يقتضي أن تساير الزمن وتجاري الطبيعة، حتى لا ينقطع ما بينها وبين ركب الحياة.
وأما الدستور الذي تنكرونه، فهو الدستور المهين العاجز الذي يرضى أن تقوم باسمه