للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[العودة]

للأستاذ محمد عبد الله عنان

هانحن أولاء نعود إلى الوطن بعد طول الغيبة والتجوال؛ نعود إليه بقلوب تخفق ابتهاجاً بالعود، وكما غادرناه بقلوب تخفق ابتهاجاً للسفر واستقبال أسابيع تخالها دائماً تفيض متاعاً للنفس واستجماماً للجسم وانتعاشاً للروح المضني.

ولكن السفر لا يحقق دائماً الأمل؛ ففي كثير من الأحيان يغدو التجوال مشقة وضنى؛ ذلك أن الذهن المضطرم يذكيه الجديد في كل لحظة فلا يفتأ يطلب المزيد من المناظر والصور، والمشاعر الحساسة تجد دائماً ما يثيرها في تلك الآفاق الاجتماعية الجديدة التي تلامسها في كل خطوة؛ وشغف الملاحظة يحفز دائماً إلى المعرفة والبحث؛ وإذا كان في ذلك متاع للعقل والروح، ففيه دائماً للجسم والقوي.

على أن السياحة نزهة العصر؛ ولقد كانت السياحة فيما مضى مشقة ومخاطرة؛ وإنه ليحضرنا ونحن نكتب هذه السطور، ونخترق العباب المتلاطم، في بهو أنيق وثير من أبهاء (الكوثر) وصف المقري مؤرخ الأندلس لرحلته من المغرب إلى الإسكندرية في نفس المياه، وما يصوره لنا من روعة البحر وأهواله، فنذكر كيف استطاعت العبقرية البشرية أن تذلل الموج المروع، وأن تسير فوقه المدن الأنيقة السابحة آمنة مطمئنة، وأن تجعل من اختراق العباب المضطرم آية النزه والمسرات.

ولقد شاد الشعراء والكتاب من قبل بمزايا السياحة ومتاعها على ما كان يحفها في تلك العصور من المشاق والمخاطر؛ ذلك أن للجديد دائماً سحراً لا يقاوم، والنفس البشرية مفطورة على حب الاطلاع واكتشاف المجهول؛ وقد كانت بلاد العالم يومئذ مجاهل بعضها بالنسبة لبعض، فكان السفر اكتشافاً لآفاق ومجتمعات مجهولة؛ أما اليوم فقد اختفى المجهول من العالم المتمدن، ولكن بقى الجديد يجذبنا سحره دائماً إلى عوالم ومجتمعات مختلفة نأنس في اكتشافها ودراستها لذة ومتاعاً للعين والنفس والروح.

وقد يستغرق التجوال في تلك العوالم والمجتمعات الجديدة كل حواسك وأفكارك؛ ولكنه مهما أفاض عليك من البهجة والسحر، لا يستطيع أن يخمد في نفسك نزعة الحنين إلى الوطن وما تزال ذكرى الوطن تمثل في ذهنك في كل خطوة، أحياناً مقرونة بالزهو، وأحياناً

<<  <  ج:
ص:  >  >>