وفي المقطعين الثالث والرابع نرى نعيمة يستسلم لحكم القضاء الذي يسخر كل ما في الوجود لكل ما في الوجود، كما نراه يعود إلى نغمته المستحبة - وحدة الوجود - وما أقرب فلسفة نعيمة من فلسفة (اسبنوزا) - ووحدة الوجود هذه التي يتغنى بها نعيمة هي وليدة اليأس وابنة الحيرة والشك، لقد حاول نعيمة أن يؤمن بما لقنوه صغيراً من عقائد وأديان فأبى عليه عقله النفاذ وقلبه الكبير الحساس الواعي أن يؤمن بما لا يرضاه عقله وقلبه الكبيران، فعكف من ثم على الأديان القديمة والحديثة يغربلها وينخلها ويقتلها درساً وتمحيصاً فاستخلص منها خير ما فيها وخلف قشورها وزؤانها للعميان الذين يؤمنون بالحرف ولا يدركون الروح، أولئك الذين (يكرمون النبتة ويرذلون التربة!).
أخذ نعيمة من الأديان أثمارها وأزهارها وأوراقها وترك فروعها الجافة الزائدة للغربان تنعق فوقها!. . . ثم خلع على معتقده هذا فنه وروحه فأبدع لنا ديناً وفناً جديدين لا عيب فيهما إلا أنهما إنسانيان شاملان ليس فيهما إرهاق للأرواح ولا استعمار للنفوس والعقول!.
دين نعيمة وفنه لا يعرفان للإنسانية حدوداً ولا للوطنية سدوداً وقيوداً.
ولقد رحب بأدب نعيمة وعقيدته قوم وأنكروهما آخرون؛ أما الذين أنكروهما فسوف يرجعون عن ضلالهم عندما تزول عن عقولهم رقى السحر وطلاسم الشعوذة؛ سوف يفزعون إلى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث يستريح المتعبون وثقيلو الأحمال!.
لابد لكل عبقري من أن يؤدي تلك الضريبة الباهظة الأزلية - ضريبة العبقرية - لأهل وطنه وزمانه، ولابد له أيضاً من أن يلبس أكاليل الشوك قبل أن يزدان مفرقه بأكاليل النار! فلو لم يكن نعيمة شرقياً لسميت الشوارع باسمه وأقيمت له التماثيل أو على الأقل لوضعت كتبه بين أيدي طلبة الكليات والجامعات. ولكن نعيمة الروحاني الإنسان شرقي يعيش في مهبط الأنبياء ومصدر الوحي - وكم رجم الشرق من أنبياء وكم قتل من مرسلين! - عفواً أيها القارئ لقد نسيت (أوراق الخريف) مرة ثانية فها هي كاملة فاقرأ وتأمل وتحسس ثم احكم؟