للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل]

للدكتور محمد يوسف موسى

من الظواهر الاجتماعية التي تراها في كل عصر وبيئة. ظاهرة الفعل والانفعال، أو التأثير والتأثر، أو بكلمة واحدة ظاهرة التقليد، فانفعال الطفل بأبويه واخوته، وانفعال التلميذ بمعلمه، وانفعال المريد بشيخه؛ كل ذلك، وما منه بسبيل، مشاهد غير منكور

وإذا كان لكل ظاهرة سبب أو مجموعة أسباب، تظهر بظهورها وتذهب بذهابها، فإن سبب هذه الظاهرة مزيج من القوة أو التفوق من جانب، وضعف الإرادة أو الشخصية من جانب آخر وقد يضاف إلى هذا وذاك كسل العقل الذي يمنع من التفكير والاستقلال في الرأي.

على أنه قد يكون الشخص الواحد منفعلاً أو متأثراً في بعض ما يذهب إليه بآبائه والعلية من قومه المعاصرين له، وإن اعتقد مع هذا أنه من المستقلين في الفكر والرأي، ومن المحافظين على هذا الاستقلال والمعتزين به، وذلك واضح لا يحتاج لضرب الأمثال.

ومع هذا لا عاب في التأثر بالغير في فكرة من الفكر، أو مذهب من المذاهب، أو طريقة من طرائق الحياة. بل إن هذا قد يكون ضرورة أحياناً كثيرة، في حياة الفرد أو الجماعة، ضرورة يمليها الواقع وتفرضها الطبيعة.

يتأثر الطفل بأبويه، ثم يتأثر بلدانه، ثم يتأثر - متى صار تلميذاً - بمعلميه ويتخذ منهم مثله العليا. وهذا الضرب من الانفعال بالغير على هذا النحو، أمر لا بد منه ولا حيلة فيه. إنه ضروري ليصل الصغير إلى معرفة كثير من الأمور، ثم لينفذ من ذلك إلى تكميل نفسه فيما بعد؛ بمعرفة أن له شخصية مستقلة يجب أن تتكون وأن تكون مستقلة على قدر ما يمكن أن يكون هذا الاستقلال؛ وبمعرفة أن له عقلاً يجب أن يفكر به ليصل إلى إدراك أن هذا العمل شر وقبيح وإن أجمع عليه أبواه ومعلموه والناس جميعاً، وإن ذاك خير وجميل وإن كان قليل الأنصار. والنتيجة لهذا أن ينأى عن التأثر بالغير إلى درجة التقليد، وأن يأخذ في الاستقلال في التفكير والرأي والعمل.

ومن الواضح، يعد هذا، أن الانفعال بالغير في هذه المرحلة من الحياة بصفة خاصة سنة من سنن الطبيعة لابد أن تنزل على حكمها. ثم علينا متى تقدمت بنا السن ونضج العقل، أن نحد منها، وبمقدار ما نحد منها تتكون الشخصية ويظهر الاستقلال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>