بين غداة وعشية أمسى غنينا الطافح عضواً بالتزكية في مجلس النواب. والفوز بالتزكية هنا معناه امتناع المنافس لا انقطاع النظير، وخلو الميدان لا بطولة الفارس؛ ومع ذلك نصب البك السرادق، وقدم الحلوى، وتقبل التهنئات، وسمع بأذنيه الطويلتين القصائد العور والخطب البتر في الإشادة بالكفاية العالية فيه، والثقة الغالية به، والخير المرجو منه. وللريف شعراء وخطباء كعصافير الحصاد: تقع في الجرن ولا تقع في الروض، وتزقزق للحبة ولا تزقزق للزهرة، وتكرر أغرودتها الواحدة ولا تقصد بها معنى غير فرحها هي بسمة البيدر وضخامة العرمة!
ولكن البك وحده هو الذي صدق هذه التفاعيل العروضية فانتفش انتفاش الديك، وراح يعد ويمني، ويعدد ويمن، ويفخر ويفيش، ويزعم أنه باجتهاده وجهاده سيجعل المجلس يبسط الأرزاق، ويطيل الأعمار، ويضمن لكل ناخب في دائرته قصراً في الدنيا وقصراً في الجنة. كان الرجل يتنفخ والناس يجاملون بالاصغاء، ويتجملون بالصبر، إلا صديقنا الشيخ منصوراً فقد قال له في شيء من حدة الصراحة وشدة الحجاج:
- ذلك يا بك كلام من لغة التحيات والمجاملات تردده الألسن بحكم العادة ولا تريد به شيئاً. هو أشبه بقولي:(أهنئك بالفوز) وما كنت أريد انتخابك، أو قول اللص:(السلام عليك) وهو يريد انتهابك. ولو كانت الوعود البرلمانية في آخر الانتخاب، والبرامج الوزارية في أول الدورة، من الكلام الذي يقصد به معناه، لما بقى في صحارى مصر شبر يشكو الظمأ، ولا في مساكين مصر فرد يشكو الجوع! لقد قلتم كثيراً ولم تفعلوا، فحاولوا هذه المرة أن تفعلوا ولا تقولوا!
- أنت يا شيخ منصور كالضرس المخالف في دولاب الساقية! لا يجري كلامك مع الكلام، ولا يقف رأيك مع الآراء! ماذا تريد أن يفعل النائب أكثر من أن يمثل الأمة، ويشرع القوانين، ويبحث الميزانية، ويراقب الحكومة؟
- ذلك هو المفروض يا بك! أما الواقع فهو أن بعضكم متى دخل البرلمان لا يمثل إلا نفسه، ولا يقضي إلا حاجه، ولا يراقب إلا عدوه. ويصوت على القانون في قاعة المجلس بالإقرار، ثم يكون هو أول من يطلب خرقه في ديوان الحكومة بالوساطة!
أن ما يطلب من الحكومة والبرلمان في شؤوننا العامة، لا يزيد كثيراً على ما يطلب من