قال المسيَّب بن رافع: وأطرق الناسُ قليلاً بعد خبر (أبي محمد البصري)؛ إذ كان كلُّ منهم قد جمع باله لما سمع، وأخذ يحدسُ في نفسه ويراجعها الرأي؛ وكان المجلسُ قد امتدّ بنا منذ العصر وما يكاد النهارُ يشعرُ بأدباره، حتى اعترضت في شمسه الغبرةُ التي تعتريها إذا دنت أن تعربُ.
وكان إلى يساري فتى ريان الشباب، حسن الصورة، وضيءٌ مشرق له هيئة وسمت، أقبل على الأيام وأقبلت الأيام عليه
فسمعني أطن على أذن (مجاهد الأزدي)؛ وكنت اعرفهُ شاعراً في كلامه وشاعراً في قلبه؛ فقلت له: إنه لم يبقَ من النهار يا مجاهد إلا مثلُ صبر المحبِّ دبا له الموعد، ولم يبقَ من الشمس إلا مثلُ ما تتلفف صاحبته، تأخذُ عليها ثوبها وغلائلها ولكن بعد أن تسقطها من هنا ومن هنا، لترى جمال جسمها هنا وهنا!
فاهتز الفتى لهذه الكلمات وسالت الرقَّة في أعطافه وقال: ياعم، أما ترى ما بقى من النهار كأنه وجهُ باكٍ مسح دموعه وليس حوله إلا كآبة الزمن؟
قلت: كأن لك خيراً يا فتى، فإن كان شأنك مما نحن فيه فقصَّه علينا وعلّ لنا به سائر الوقت إلى أن تجب الشمس، ولعلك طائرٌ بنا طيرةً فوق الدنيا.
قال: فمهْ؟
قلت: تقومُ فتتكلم، فإني أرى لك لساناً وبياناُ
قال: أو يحسن أن أتكلم في المسجد عن صرعه الحب وصريعه، وعاشقةٍ وعاشق؟
فبادر مجاهدٌ فقال: ويحك يا فتى! لقد تحجرت واسعاً؛ إن المؤمن ليصلّى بين يدي الله وكتابُ سيئاته في عنقه منشورٌ مقروء. وهل أوقات الصلاة إلا ساعاتٌ قلبية لكل يومٍ من الزمن، تأتي الساعة مما قبلها كما تأتي توبةُ القلب مما عمل الجسم؟ إنما يتلقَّى المسجدُ من يدخله لساعته التي يدخله فيها، ولو أنه حاسبه عن أمسِ وأول منه وما خلا من قبل، لطردهُ من العتبة! إن المسجد يا بني إنما يقول لداخله: أدخل في زمني ودع زمنك، وتعال إلي أيها الإنسانٌ الأرضي، لتتحقق أن فيك حاسةً من السماء، وجئني بقلبك وفكرك، ليشعرا ساعةً