للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ميلاد أمة]

للأستاذ حامد بدر

كنا نريد الكلام ولا نتكلم. ولنا ألسن؛ لأن على الأفواه أقفالا. وكنا نظلم ويبطش بنا، فلا نستطيع أن نرد الظلم، أو ندفع البطش. ولنا أيد؛ لأن في الأيدي أغلالا؟ وكنا نؤخذ في كل شيء قسرا. فلا نجد مفرا. لأن الحرية ضائعة. والطغيان بالغ منتهاه!

فإذا فاض الإناء. ونفد الصبر. لم يجد الكاتب ما يخفف به من بلائه سوى زفرة حارة يرسلها على القرطاس. في عبارة مقنعة لا يفهمها إلا من يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير. ولا يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير إلا من نزل به هم كهم هذا الكتاب المحزون، أو أصابه جرح كجرح ذلك الفصيح الأبكم!

ولا شك في أن للمظلوم الذي لاذ بالصمت كارها شكاة تسمع ولو لم نطق بها. فليس بين الإله وبين قلوب عباده حجاب. وهو بالمظلومين والظالمين خبير بصير. كما لا شك في أن للظالم جزاء يلاحقه أينما كان. فإن لم يلحقه عاجلا. فلابد أن يلتقي به يوم ما. وإن يوم الفصل الذي أعد له لأبشع وأشنع وأفظع من كل انتقام عاجل يصيبه في الدنيا!

كنت بالأمس لا أستطيع الكلام الصريح. ولي لسان عليه غل. وفي يدي قلم عليه. غل أيضا. فإن حاولت الكتابة لأنفس عن نفسي. وأخفف عن آلامها. أخذت أدور حول الغرض ولا أقربه. ولأني أمقت الدوران. كنت كثيراً ما أطوي الكتاب قبل إتمامه. وأعرض عن الموضوع قبل استيعابه.

كنت أقول في نفسي: إن كل شيء في الصدر مخطوط. وفي الإفضاء بما في الصدر راحة. ولكن كف أسجل شكاتي التي أريدها صريحة ناصعة ولا سبيل إلى ما أردت؟ لن أكتبها مشوهة مبتورة! فالسكوت السكوت!

هكذا كنت أوثر السكوت وأنا مكره. والآن وقد انطلقت الألسن والأقلام. . فما عذري إن لم أتكلم؟

بالأمس كنت مكرها على السكوت. واليوم زالت الأسباب التي من أجلها أردت الكلام. فلا كلام بالأمس. ولا كلام اليوم! والفرق واضح بين سكوت الأسير العاجز، وسكوت الحر القادر، وليس أدل على الرضا من سمت المرء وهو قادر على الإفصاح.

<<  <  ج:
ص:  >  >>