بين الفلسفة والدين، وبين الفلاسفة ورجال الدين، خصومة قديمة تذهب إلى أبعد العصور، ولا تزال سارية حتى اليوم. فقد كانت التهمة التي وجهت إلى سقراط أنه أنكر آلهة اليونان، ومن أجل ذلك حكموا عليه بالإعدام. وتاريخ الحضارة الإسلامية يسجل صراعا مستمرا حادا بين الفلاسفة ورجال الدين، أشتهر بعضه، وخفي عنا بعضه الأخر. وأظنك لا تجهل كيف نهض الغزالي يهاجم الفلاسفة هجوما عنيفا في كتابه تهافت الفلاسفة، وانبرى له أبن رشد يفند أقواله في (تهافت التهافت) كما ألف في التوفيق بين الفلاسفة والدين، ويدعو إلى رفع الخلاف عنهما كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). ولا نحب أن نستعرض كل ما وقع في تاريخ الفكر، فالخصومة أشهر من الاستعراض ولا تحتاج إلى استرسال. غير أنا نحب أن ننشر صفحة طواها التاريخ أجيالا، وسعى الباحثون عنها فلم يجدوا إلا ظلا وخيالا، تلك هي صفحة الكندي، فيلسوف العرب، الذي ضاعت كتبه، وطويت في بطون المخطوطات، حتى كشف حديثا عن جملة من رسائله، تفصح عن فلسفته، وتلقى الضوء على مذهبه.
وسوف نحدثك في هذه الكلمة عن جانب واحد من جوانب فكره: هو موقفه من الدين ورجاله، فنذكر طرفا من احتجاجه وجداله.
فقد شاع عن الكندي أنه ينتسب إلى يونان، وانه كفر بعد اصطناع آرائهم في الفلسفة، كما روى المسعودي في مروج الذهب فقال: (وقد كان يعقوب الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا: أنه أخ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأشياء. . . وقد رد عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدة له طويلة، ووكد خلطه نسب يونان بقحطان على حسب ما ذكرنا أنفا في صدد هذا الباب، فقال:
أبا يوسف أني نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا أمرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عندا
أتقرن إلحادا بدين محمد ... لقد جئت فينا يا أخا كنده أد
وتخلط يونان بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدا