كأننا حين كنا نجلس في لَحَق القهوة على شاطئ النهر كنا نشرف على مسرح من مسارح الفكر والشعور لا يقع في صفوه كدر من أوزار الناس، ولا قذر من أوضار المادة. فلما دفعتنا بواكر الخريف إلى داخل القهوة أحسسنا الدنيا بصخبها وشغبها، وجدها ولعبها، وصدقها وكذبها، وفشلها وغلبها؛ واستشعرنا ثقل الحياة وضعة الناس وسخف الرواية الإنسانية تمثل على أسلوب واحد كل يوم في أي مكان من الأرض صغير أو كبير، وبأي عدد من الناس قليل أو كثير.
مسرح الحياة في القهوة ضيق المجال ضئيل العدد قليل الشهود، ولكنه صورة مقاربة لمسرحها في الوجود الأكبر: ثلاث سلاسل من المناضد الرخامية امتدت في ثلاثة أروقة، قد جلس عليها هواة النرد والدومينو والشطرنج والورق: فأما النرد، ومثله الدومينو، فيمثل مذهب الحظ والتهويش في ابتغاء الربح؛ فلاعبه لا ينفك ظياش الحلم، جياش الدم، يصك الخانة بالقشاط، ويربك الخصم بالعياط والزياط. وأما الشطرنج، ومثله الورق، فيمثل مذهب الروية والأناة في محاولة الكسب؛ لذلك ترى لاعبه ساكنا ساكتا كتمثال الحكمة، تحسبه من طول تفكيره لا يعمل. ومكسب العقل أو الشطرنج بطيء ولكنه ثابت، ومكسب الحظ أو النرد سريع ولكنه متقلب.
وعلى حواشي هذه السلاسل جلست جماعات مختلفات في منهج السلوك ودرجة الثقافة؛ فهؤلاء من رجال العمل يُداهي بعضهم بعضاً في مبايعة أو مقاولة، وأولئك من رجال العلم يتنازعون الحجج في مناقلة أو مجادلة.
وفي مماشي القهوة أفراد من صعاليك الخلق يمشون وأبصارهم لا تقع إلا على النعال أو على الأرض: أولئك هم ماسحو الأحذية ولاقطو الأعقاب؛ وهم يمثلون الذين رضوا بالهُون والدون، وجهلوا أن فوق الأرض سماء، وأن مع (البراطيش) طرابيش!
ولو أردنا لوجدنا لكل طبقة من طبقات المجتمع صورة من صُور القهوة نَشَقق عليها الحديث ونعمق فيها البحث، ولكننا نقف اليوم عند صورة هذه العيون المشدودة إلى الأرض، أو المعقودة في النعال، فإنها أولى بالتفكير وأجدر بالرثاء.