سؤال كنت أنتظره من كثيرين بعد مقالي السابق عن الشعراء الذين (لهم عالم) من الأوربيين والعرب. وقد سألنيه أكثر من واحد وحق لهم أن يسألوا؛ لأن ليوباردي ضعيف الشهرة من البلاد الشرقية ويوشك أن ينساه القراء الأوربيون على ارتفاع شأنه بين النقاد والمعجبين بالأدب الفحل والأساليب الرصينة والنزعات (الإغريقية) الصادقة في غير اصطناع ولا محاكاة
قلت في مقالي السابق:(إن أبا تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها من أمثال ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي، وأمثال شكسبير وجيتي وليوباردي في الآداب الأوربية) فمن هو ليوباردي هذا؟
هو بالإيجاز ثالث الثالوث الأكبر الذي اشتهر بالتشاؤم في أوائل القرن التاسع عشر: وهم بيرون الشاعر الإنجليزي، وشوبنهور الفيلسوف الألماني، وليوباردي الشاعر الفيلسوف الإيطالي الذي كان أصدق الثلاثة تشاؤماً وأحقهم جميعاً بالتشاؤم، والذي شاء القدر - الرحيم - أن يفارق الدنيا كما فارقها زميله بيرون قبل الأربعين، ولم يشأ له أن يعمر فيها كما عمر الفيلسوف الألماني إلى ما بعد الثمانين
ولد في عصر التشاؤم لأنه عصر الانتزاع من الماضي والشك في الحاضر والتهيب من المستقبل، وابتلى بكل سبب من أسباب التشاؤم ينغص لذة العيش ويرنق صفو الحياة، فاجتمعت عليه عراقة النسب مع الفاقة، واصطلحت عليه الأسقام وضآلة البنية، ودقة الحس، وفرط الذكاء، وخيبة الحب في مقتبل الشباب، وسآمة البيئة الريفية التي نشأ بينها واضطر إلى البقاء فيها، وأدركه الموت وهو أصم ونصف أعمى ومريض حرض منذ سنين
ومع هذا أي فحولة في الذهن، وأي مضاء في البديهة، وأي أمانة للأدب، وأي صدق في التعبير؟