على أن كرمويل ما لبث أن توفي، فكان موته زلزالاً عنيفاً قوض دعائم ذلك الدستور الذي شاد بيده الحديدة بنيانه؛ وزاد في الطين بلة ضعف خلفائه السياسي، فعادت الملكية إلى مكانتها السابقة، وكان طبَعيّاً أن تنتقم من البرلمانيين، وتثأر منهم لعرشها المغصوب وعزها المسلوب. أما ملتون فقد أدرك ما للملكيين عنده من الثأر الجسيم، وذلك لما نالهم منه من الطعن والامتهان والزراية، فأوجس خيفة من شرهم وانتقامهم، فتوارى عن عيونهم مدة من الزمن تجنباً لكيدهم؛ إلا أن هؤلاء بثوا وراءه العيون والأرصاد، فتمكنوا من القبض عليه، وزجوه في غياهب السجن وغرموه غرامات مالية فادحة؛ ثم سيق للمحاكمة، وقد كاد يحكم عليه بالإعدام لو لم يدافع عنه أمام المحكمة أشهر رجال المحاماة في ذلك العصر
وفي عام ١٦٦٢م اعتزل ملتون السياسة، إذ فقد بصره وأصبح غير قادر على الاتصال الفعلي بالهيئة البشرية الاجتماعية، والإشراف على أحداثها السياسية والدينية والاجتماعية، فقصر وقته لذلك على الدرس والاجتهاد، وأكب على التأليف حتى نبه صيته في جميع الأوساط الأدبية كشاعر فذّ وكاتب بليغ، ومع اعتزال ملتون الفعلي للأمور السياسية فقد ظل يهز الرأي العام بكتاباته وشخصيته الفنية بعد الأخرى، وهو وفيذ وحدته، ووحيد عزلته. وما هي إلا ثلاث سنوات قضاها في عقر بيته منعزلاً عن المجتمع حتى أخرج للعالم ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود وهي أعظم سفر أدبي في سجل الأدب الإنكليزي؛ وقد لا نجد لها حتى اليوم مثيلاً إلا بالرجوع إلى الملاحم العالمية السبع
الفردوس المفقود
لقد أجمعت الآراء على أن ملحمة الفردوس المفقود في الأدب الإنكليزي كالإلياذة في الأدب اليوناني والكوميديا الإلهية في الأدب الإيطالي، وأنها في شهرتها الواسعة هي الثالثة لهاتين الملحمتين العالميتين. ولئن وجد فيها بعض المتحذلقين من نقدة الأدب مجساً لمشارطهم