ليس بين أمراء الدولة الأموية، سواء في الشام أو الأندلس، من تقدم إلينا حياته وسيرته تلك الصفحة المدهشة التي يقدمها إلينا عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل؛ فقد كان هذا الأمير بطل مأساة خارقة مؤثرة؛ ولم تكن روعة هذه الصفحة في أنه أقام من العدم ملكاً عظيماً فقط، وأقام لمجد أسرته الذاهب صرحاً شامخاً فحسب، ولكن روعتها تبدو بنوع خاص في معترك المحن الأليمة التي نشأ في غمارها هذا الأمير القوي النابه. وإذا كانت حياته السياسية لا تحمل على كثير من الحب، وتبدو لنا حياة مغامر يشق طريقه إلى السلطان بوسائل ليست دائماً مشروعة، فان المحنة التي طبعت بها حياته الخاصة، وما صقلت هذه المحنة من خلاله الباهرة، لمما يستثير منا أيما عطف وإعجاب
وقد لا نجد لحياة الداخل صورة أبلغ وأقوى من تلك التي رسمها لنا خصمه وعدو أسرته أبو جعفر المنصور العباسي إذ نعته بصقر قريش، ولخص لنا حياته المدهشة في قوله:(عبر القفر، ودخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلّلا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين بطيب عترته واجتماع شيعته؛ وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين)
تلك هي حياة عبد الرحمن بن معاوية، حياة نشأت من العدم، وسلسلة حافلة بالمحن والصعاب الفادحة، تبدأ في المشرق بفرار عبد الرحمن أمام مطارديه وقتله أسرته ومغتصبي عرش آبائه وأجداده، وتنتهي في الغرب وبسائط الأندلس بالظفر والملك الموطد. ولقد كان هذا الفرار أول وأعجب فصل في هذه المأساة، وكان عنوان القدر المدهش يدبر من الحوادث الواقعة ما لا يخطر تصوره على الذهن المغرق في الخيال
كانت سنة ١٣٢هـ سنة حاسمة في تاريخ الإسلام والخلافة، ففيها أنهار صرح الدولة