أتم تولستوي (أنا كارينينا) وقد أصبح في روسيا أحد رجالها المعدودين، وفي أدبائها فارسهم المعلم، وأصبح في أوربا أجد القلة الأفذاذ من أساتذة الفن وأعلامه. وإنه لذو ثراء عريض، وذو بنين، يسكن إلى زوجة اختارها لنفسه عن بينة وحب؛ وهو إلى ذلك يتمتع بالعافية، وقد وهبه الله جسما قوياً لا تسكن حيويته ولا تفتر قوته، وإن موهبته الفنية لتمد اليوم لتمد اليوم أكثر مدها وإن روسيا كلها لتنظر إليه نظرتها إلى أعظم من أنجبت من رجال القلم في تاريخها، حتى لقد اغتدى اسمه لها مفخرة قومية، واغتدت به تباهي بأن صار لها في أدب الدنيا صفحة مرقومة ومقام معلوم.
ولكنه بين عشية وضحاها ينظر فإذا بهذا كله عنده لا شئ، وإذا يشعر أنه شقي لم يذق مثل شقائه أحد أو يعذب عذابه أحد على الرغم مما يحيط به مما يراه الناس من أسباب السعادة والنعيم إنه ليتقلب على فراشه إذا جنه الليل مسهد الجفنين. ولقد بين أنين المحموم بل لقد يجهش في الظلام كما يجهش الصبى؛ وإنه ليثب من فراشه فيذرع الحجرة حتى يتنفس الصبح. . . وإنه ليجلس إلى مكتبه مطرقاً أو محدقا في الفضاء، لا يفتح كتابا ولا يرفع قلماً؛ وإنه ليعتزل زوجته، ويتكره لأبنائه أو يشيح بوجهه عنهم؛ وإنه ليدفن وجهه ساعات بين كفيه؛ وإنه ليسرع ذات مرة إلى بندقية صيده فيبعدها ويغلق من دونها بابا مخافة أن يقتل بها نفسه؛ وإنه ليترك ما يأتيه من رسائل في غلقها، ولا يحب أن يلقى أحدا من صحابته؛ وإن زوجته لتملئ فرقا وحزنا حتى لتكاد تذهب نفسها عليه حسرات؛ وإن أولاده ليعجبون ولكنهم واجمون. .
ماذا دهاه؟ إن حاله من تلقى ضربة في الظلام تركته يترنح من الألم، وكلما أوشك أن يفيق أخذه دوار فتركه يتخبط
ويهذي، لا يدري متى يعود إليه صوابه. . .
ولكن تولستوي لم يتلق الضربة على حين غفلة، فإنه منذ صدر شبابه تهجس في نفسه أسئلة عن الحياة ومعناها،
والغرض منها؛ ولقد رأينا كيف ألحت عليه هذه الأسئلة وهو في القوقاز وشغلته آماله